مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{لَّا يَسۡمَعُونَ فِيهَا لَغۡوًا إِلَّا سَلَٰمٗاۖ وَلَهُمۡ رِزۡقُهُمۡ فِيهَا بُكۡرَةٗ وَعَشِيّٗا} (62)

وثانيها : قوله : { لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما } واللغو من الكلام ما سبيله أن يلغي ويطرح وهو المنكر من القول ونظيره قوله : { لا تسمع فيها لاغية } وفيه تنبيه ظاهر على وجوب تجنب اللغو حيث نزه الله تعالى عنه الدار التي لا تكليف فيها وما أحسن قوله : { وإذا مروا باللغو مروا كراما } ، { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين } أما قوله : { إلا سلاما } ففيه بحثان :

البحث الأول : أن فيه إشكالا وهو أن السلام ليس من جنس اللغو فكيف استثنى السلام من اللغو والجواب عنه من وجوه : أحدها : أن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة وأهل الجنة لا حاجة بهم إلى هذا الدعاء فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الإكرام . وثانيها : أن يحمل ذلك على الاستثناء المنقطع . وثالثها : أن يكون هذا من جنس قول الشاعر :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم*** بهن فلول من قراع الكتائب

البحث الثاني : أن ذلك السلام يحتمل أن يكون من سلام بعضهم على بعض أو من تسليم الملائكة أو من تسليم الله تعالى على ما قال تعالى : { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار } وقوله : { سلام قولا من رب رحيم } . ورابعها : قوله تعالى : { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا } وفيه سؤالان : السؤال الأول : أن المقصود من هذه الآيات وصف الجنة بأحوال مستعظمة ووصول الرزق إليهم بكرة وعشيا ليس من الأمور المستعظمة . والجواب من وجهين : الأول : قال الحسن أراد الله تعالى أن يرغب كل قوم بما أحبوه في الدنيا ولذلك ذكر أساور من الذهب والفضة ولبس الحرير التي كانت عادة العجم والأرائك التي هي الحجال المضروبة على الأسرة وكانت من عادة أشراف العرب في اليمن ولا شيء كان أحب إلى العرب من الغداء والعشاء فوعدهم بذلك . الثاني : أن المراد دوام الرزق كما تقول أنا عند فلان صباحا ومساء وبكرة وعشيا تريد الدوام ولا تقصد الوقتين المعلومين . السؤال الثاني : قال تعالى : { لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا } وقال عليه السلام : « لا صباح عند ربك ولا مساء » والبكرة والعشي لا يوجدان إلا عند وجود الصباح والمساء . والجواب المراد أنهم يأكلون عند مقدار الغداة والعشي إلا أنه ليس في الجنة غدوة وعشي إذ لا ليل فيها ويحتمل ما قيل إنه تعالى جعل لقدر اليوم علامة يعرفون بها مقادير الغداة والعشي ويحتمل أن يكون المراد لهم رزقهم متى شاءوا كما جرت العادة في الغداة والعشي .