اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَّا يَسۡمَعُونَ فِيهَا لَغۡوًا إِلَّا سَلَٰمٗاۖ وَلَهُمۡ رِزۡقُهُمۡ فِيهَا بُكۡرَةٗ وَعَشِيّٗا} (62)

قوله : { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } . اللغو من{[21787]} الكلام : ما يلقى ويطرح ، وهو المنكر من القول كقوله : { لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً }{[21788]} . وقال مقاتل{[21789]} : هي اليمين الكاذبة{[21790]} وفيه دلالة على وجوب اجتناب اللغو ، لأن الله -تعالى- نزه عنه الدار التي لا تكليف فيها ، ولقوله : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً }{[21791]} ، وقوله : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ }{[21792]} {[21793]} الآية{[21794]} .

أبدى الزمخشري فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون{[21795]} معناه : إن كان تسليم بعضهم على بعض ، أو تسليم الملائكة عليهم لغواً ، فلا يسمعون لغواً إلا ذلك ، فهو من وادي قوله{[21796]} :

وَلا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ *** بِهِنَّ فلولٌ مِنْ قِراعِ الكَتائِبِ{[21797]}

الثاني : أنهم لا يسمعون فيها إلا قولاً يسلمون فيه من العيب والنقصان على الاستثناء المنقطع .

الثالث : أن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة ، ودار السلامة هي دار السلامة ، وأهلها أغنياء عن الدعاء بالسلامة ، فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث ، لولا ما فيه من فائدة الإكرام{[21798]} .

وظاهر هذا أن الاستثناء على الأول والأخير متصل ، فإنه صرح بالمنقطع في الثاني وأما اتصال الثالث فواضح ، لأنه أطلق اللغو على السلام بالاعتبار الذي ذكره .

وأما الاتصال في الأول فعسر{[21799]} ، إذ لا يعدُّ ذلك عيباً ، فليس من جنس الأول وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله -تعالى- عند قوله : { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى }{[21800]} .

قوله : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } فيه سؤالان{[21801]} :

السؤال الأول{[21802]} : أن المقصود من هذه الآيات وصف الجنة بآيات مستعظمة ووصول الرزق إليهم بكرة وعشياً ليس من الأمور المستعظمة .

والجواب من وجهين :

الأول : قال الحسن : أراد تعالى أن يرغب كل قوم بما أحبوه في الدنيا ، فلذلك ذكر أساور الذهب والفضة ، ولبس الحرير التي كانت{[21803]} عادة العجم ، والأرائك التي هي الحجال{[21804]} المضروبة على الأسرَّة ، وكانت عادة أشراف اليمن ، ولا شيء كان أحب إلى العرب من الغداء والعشاء فوعدهم بذلك .

الثاني : المراد دوام الرزق ، تقول : أنا عند فلان صباحاً ومساء{[21805]} ، تريد الدوام ، ولا تقصد الوقتين المعلومين .

السؤال الثاني : قال تعالى : { لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً }{[21806]} وقال عليه السلام{[21807]} : " لا صباح عند ربك ولا مساء بل هم في نور أبداً " {[21808]} .

والبكرة والعشيّ لا يوجدان{[21809]} إلا عند وجود الصباح والمساء .

والجواب : أنهم يأكلون على مقدار الغداة والعشي ، لا أن في الجنة غدوة ولا عشياً ، إذ لا ليل فيها{[21810]} .

وقيل : إنهم يغرقون النهار برفع الحجب ، ووقت الليل بإرخاء الحجب{[21811]} .

وقيل : المراد رفاهية العيش ، وسعة الرزق{[21812]} ، أي : لهم رزقهم متى شاءوا .


[21787]:في ب: في.
[21788]:[الغاشية: 11].
[21789]:تقدم.
[21790]:تفسير البغوي 5/383.
[21791]:[الفرقان: 72].
[21792]:من قوله تعالى: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} [القصص: 55].
[21793]:ما بين القوسين سقط من ب.
[21794]:انظر الكشاف 2/415-416، والفخر الرازي 21/238.
[21795]:في ب: كان.
[21796]:كان: سقط من ب.
[21797]:البيت من بحر الطويل، قاله النابغة الذبياني، فلول جمع فلّ، وهو كسر في حد السيف، وسيف أفلّ: بين الفلل. القراع والمقارعة: المضاربة بالسيوف. الكتائب: جمع كتيبة، وهي الطائفة المجتمعة من الجيش. والشاهد فيه أن صاحب الكشاف أورده على أن الاستثناء فيه استثناء متصل، مبالغة في المدح، أي: إن كان ولا بدّ من العيب ففيهم عيب، وهو فلول سيوفهم من مضاربة الأعداء. وأورده علماء البديع شاهدا لتأكيد المدح بما يشبه الذم. وقد تقدم.
[21798]:انظر الكشاف 2/416.
[21799]:في ب: وأما الاتصال الأول فعسر أعني الاتصال في الأول عسر.
[21800]:[الدخان: 56].
[21801]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 21/238.
[21802]:في ب: أحدهما.
[21803]:في ب: الذي كان.
[21804]:الحجال: جمع حجلة مثل القبة، وحجلة العروس معروفة، وهي بيت يزين بالثياب والأسرّة والستور. اللسان (حجل).
[21805]:في ب: صباحا ومساء وبكرة وعشيا.
[21806]:[الإنسان: 18].
[21807]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[21808]:في ب: دائما.
[21809]:في ب: لا يوجد. وهو تحريف.
[21810]:آخر ما نقله عن الفخر الرازي 21/238.
[21811]:انظر البغوي 5/384.
[21812]:المرجع السابق.