مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ} (205)

الصفة الرابعة : قوله تعالى : { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد } اعلم أنه تعالى لما بين من حال ذلك الإنسان أنه حلو الكلام ، وأنه يقرر صدق قوله بالاستشهاد بالله وأنه ألد الخصام ، بين بعد ذلك أن كل ما ذكره باللسان فقلبه منطو على ضد ذلك فقال : { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها } ثم في الآية مسائل :

المسألة الأولى : قوله تعالى : { وإذا تولى } فيه قولان : أحدهما : معناه وإذا انصرف من عندك سعى في الأرض بالفساد ، ثم هذا الفساد يحتمل وجهين أحدهما : ما كان من إتلاف الأموال بالتخريب والتحريق والنهب ، وعلى هذا الوجه ذكروا روايات منها ما قدمنا أن الأخنس لما أظهر للرسول عليه السلام أنه يحبه وأنه على عزم أن يؤمن فلما خرج من عنده مر بزرع للمسلمين فأحرق الزرع وقتل الحمر ، ومنها أنه لما انصرف من بدر مر ببني زهرة وكان بينه وبين ثقيف خصومة فبيتهم ليلا وأهلك مواشيهم وأحرق زرعهم .

والوجه الثاني في تفسير الفساد : أنه كان بعد الإنصراف من حضرة النبي عليه السلام يشتغل بإدخال الشبه في قلوب المسلمين ، وباستخراج الحيل في تقوية الكفر ، وهذا المعنى يسمى فسادا ، قال تعالى : حكاية عن قوم فرعون حيث قالوا له : { أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض } أي يردوا قومك عن دينهم ، ويفسدوا عليهم شريعتهم ، وقال أيضا : { إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد } وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى : { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض } ما يقرب من هذا الوجه ، وإنا سمي هذا المعنى فسادا في الأرض لأنه يوقع الاختلاف بين الناس ويفرق كلمتهم ويؤدي إلى أن يتبرأ بعضهم من بعض ، فتنقطع الأرحام وينسفك الدماء ، قال تعالى :

{ فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم } فأخبر أنهم أن تولوا عن دينه لم يحصلوا إلا على الفساد في الأرض ، وقطع الأرحام ، وذلك من حيث قلنا وهو كثير في القرآن ، واعلم أن حمل الفساد على هذا أولى من حمله على التخريب والنهب ، لأنه تعالى قال : { ويهلك الحرث والنسل } والمعطوف مغاير للمعطوف عليه لا محالة .

القول الثاني : في تفسير قوله : { وإذا تولى } وإذا صار واليا فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل ، وقيل : يظهر الظلم حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر فيهلك الحرث والنسل ، والقول الأول أقرب إلى نظم الآية ، لأن المقصود بيان نفاقه ، وهو أنه عند الحضور يقول الكلام الحسن ويظهر المحبة ، وعند الغيبة يسعى في إيقاع الفتنة والفساد .

المسألة الثانية : قوله : { سعى في الأرض } أي اجتهد في إيقاع القتال ، وأصل السعي هو المشي بسرعة ولكنه مستعار لإيقاع الفتنة والتخريب بين الناس ، ومنه يقال : فلان يسعى بالنميمة قال الله تعالى : { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة } .

المسألة الثالثة : من فسر الفساد بالتخريب قال : إنه تعالى ذكره أولا على سبيل الإجمال ، وهو قوله : { ليفسد فيها } ثم ذكره ثانيا على سبيل التفصيل فقال : { ويهلك الحرث والنسل } ومن فسر الإفساد بإلقاء الشبهة قال : كما أن الدين الحق أمران أولهما العلم ، وثانيهما العمل ، فكذا الدين الباطل أمران أولهما الشهبات ، وثانيهما فعل المنكرات ، فههنا ذكر تعالى أولا من ذلك الإنسان اشتغاله بالشبهات ، وهو المراد بقوله : { ليفسد فيها } ثم ذكر ثانيا إقدامه على المنكرات ، وهو المراد بقوله : { ويهلك الحرث والنسل } ولا شك في أن هذا التفسير أولى ثم من قال سبب نزول الآية أن الأخنس مر بزرع للمسلمين فأحرق الزرع وقتل الحمر قال : المراد بالحرث الزرع ، وبالنسل تلك الحمر ، والحرث هو ما يكون منه الزرع ، قال تعالى : { أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه } وهو يقع على كل ما يحرث ويزرع من أصناف النبات ، وقيل : إن الحرث هو شق الأرض ، ويقال لما يشق به : محرث ، وأما النسل فهو على هذا التفسير نسل الدواب ، والنسل في اللغة : الولد ، واشتقاقه يحتمل أن يكون من قولهم : نسل ينسله إذا خرج فسقط ، ومنه نسل ريش الطائر ، ووبر البعير ، وشعر الحمار ، إذا خرج فسقط ، والقطعة منها إذا سقطت نسالة ، ومنه قوله تعالى : { إلى ربهم ينسلون } أي يسرعون ، لأنه أسرع الخروج بحدة ، والنسل الولد لخروجه من ظهر الأب وبطن الأم وسقوطه ، والناس نسل آدم ، وأصل الحرف من النسول وهو الخروج ، وأما من قال : إن سبب نزول الآية : أن الأخنس بيت على قوم ثقيف وقتل منهم جمعا ، فالمراد بالحرث : إما النسوان لقوله تعالى : { نساؤكم حرث لكم } أو الرجال وهو قول قوم من المفسرين الذين فسروا الحرث بشق الأرض ، إذ الرجال هم الذين يشقون أرض التوليد ، وأما النسل فالمراد منه الصبيان .

واعلم أنه على جميع الوجوه فالمراد بيان أن ذلك الفساد فساد عظيم لا أعظم منه لأن المراد منها على التفسير الأول . إهلاك النبات والحيوان ، وعلى التفسير الثاني : إهلاك الحيوان بأصله وفرعه ، وعلى الوجهين فلا فساد أعظم منه ، فإذن قوله : { ويهلك الحرث والنسل } من الألفاظ الفصيحة جدا الدالة مع اختصارها على المبالغة الكثيرة ونظيره في الاختصار ما قاله في صفة الجنة { وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين } وقال : { أخرج منها ماءها ومرعاها } .

فإن قيل : أفتدل الآية على أنه يهلك الحرث والنسل ، أو تدل على أنه أراد ذلك ؟ .

قلنا : إن قوله : { سعى في الأرض ليفسد فيها } دل على أن غرضه أن يسعى في ذلك ، ثم قوله : { ويهلك الحرث والنسل } إن عطفناه على الأول لم تدل الآية على وقوع ذلك ، فإن تقدير الآية هكذا : سعى في الأرض ليفسد فيها ، وسعى ليهلك الحرث والنسل ، وإن جعلناه كلاما مبتدأ منقطعا عن الأول ، دل على وقوع ذلك ، والأول أولى ، وإن كانت الأخبار المذكورة في سبب نزول الآية دلت على أن هذه الأشياء قد وقعت ودخلت في الوجود .

المسألة الرابعة : قرأ بعضهم { ويهلك الحرث والنسل } على أن الفعل للحرث والنسل ، وقرأ الحسن بفتح اللام من يهلك وهي لغة نحو : أبى يأبى ، وروي عنه { ويهلك } على البناء للمفعول .

المسألة الخامسة : استدلت المعتزلة على أن الله تعالى لا يريد القبائح بقوله تعالى : { والله لا يحب الفساد } قالوا : والمحبة عبارة عن الإرادة ، والدليل عليه قوله تعالى : { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة } والمراد بذلك أنهم يريدون ، وأيضا نقل عن الرسول عليه السلام أنه قال : « إن الله أحب لكم ثلاثا وكره لكم ثلاثا ، أحب لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأن تناصحوا من ولاة أمركم وكره لكم القيل والقال وإضاعة المال وكثرة السؤال » فجعل الكراهة ضد المحبة ، ولولا أن المحبة عبارة عن الإرادة وإلا لكانت الكراهة ضدا للإرادة ، وأيضا لو كانت المحبة غير الإرادة لصح أن يحب الفعل وإن كرهه ، لأن الكراهة على هذا القول إنما تضاد الإرادة دون المحبة ، قالوا : وإذا ثبت أن المحبة نفس الإرادة فقوله : { والله لا يحب الفساد } جار مجرى قوله والله لا يريد الفساد كقوله : { وما الله يريد ظلما للعباد } بل دلالة هذه الآية أقوى لأنه تعالى ذكر ما وقع من الفساد من هذا المنافق ثم قال : { والله لا يحب الفساد } إشارة إليه فدل على أن ذلك الواقع وقع لا بإرادة الله تعالى وإذا ثبت أنه تعالى لا يريد الفساد وجب أن لا يكون خالقا له لأن الخلق لا يمكن إلا مع الإرادة فصارت هذه الآية دالة على مسألة الإرادة ومسألة خلق الأفعال والأصحاب أجابوا عنه بوجهين الأول : أن المحبة غير الإرادة بل المحبة عبارة عن مدح الشيء وذكر تعظيمه والثاني : إن سلمنا أن المحبة نفس الإرادة ، ولكن قوله : { والله لا يحب الفساد } لا يفيد العموم لأن الألف واللام الداخلين في اللفظ لا يفيدان العموم ثم الذي يهدم قوة هذا الكلام وجهان الأول : أن قدرة العبد وداعيته صالحة للصلاح والفساد فترجح الفساد على الصلاح ، إن وقع لا لعلة لزم نفي الصانع ، وإن وقع لمرجح فذلك المرجح لا بد وأن يكون من الله وإلا لزم التسلسل ، فثبت أن الله سبحانه هو المرجح لجانب الفساد على جانب الصلاح فكيف يعقل أن يقال : إنه لا يريده والثاني : أنه عالم بوقوع الفساد فإن أراد أن لا يقع الفساد لزم أن يقال : إنه أراد أن يقلب علم نفسه جهلا وذلك محال .