قوله تعالى : { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى } " سَعَى " جوابُ إذا الشَّرطيَّة ، وهذه الجُملةُ الشَّرطيةُ تحتملُ وجْهَيْنِ .
أحدهما : أن تكُونَ عطفاً على ما قبلها ، وهو " يُعْجِبُكَ " ، فتكون : إمَّا صلةً ، أو صفةً حسب ما تقدَّم في " مَنْ " .
والثاني : أن تكُون مُستأَنفةً لمُجرَّدِ الإخبارِ بحالِهِ ، وقد تَمَّ الكلامُ عند قوله : " ألدُّ الخصام " .
والتّولِّي والسَّعْيُ يحْتَمِلان الحقيقة ، أي : تولَّى ببدنِهِ عنك وسعَى بِقَدَمَيْهِ ، والمُجازَ بأن يريدُ بالتولِّي الرُّجُوع عن القَوْلِ الأَوَّل ، وبالسَّعي العمَل والكَسْبَ من السَّعاية ، وهو مجازٌ شائعٌ ؛ ومنه :
{ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى } [ النجم : 39 ] ، وقال امرؤُ القَيسِ : [ الطويل ]
فَلَوْ أَنَّ مَا أَسْعَى لأَدْنَى مَعِيشَةٍ *** كَفَانِي - وَلَمْ أَطْلُبْ - قليلٌ مِنَ المَالِ
وَلكِنَّمَا أَسْعَى لِمَجْدٍ مُؤَثَّلٍ *** وَقَدْ يُدْرِكُ المَجْدَ المُؤَثَّلَ أَمْثَالِي{[53]}
أَسْعَى عَلَى حَيِّ بَنِي مَالِكٍ *** كُلُّ امْرِىءٍ فِي شَأْنِهِ سَاعِي{[54]}
والسَّاعيةُ بالقولِ ما يقْتَضِي التَّفْرِيق بينَ الأَخِلاَّءِ ؛ قال القائل : [ السريع ]
مَا قُلْتُ مَا قَالَ وُشَاةٌ سَعَوْا *** سَعْيَ عَدْوٍّ بَيْنَنَا يَرْجُفُ{[55]}
وقال الضَّحَّاكُ : وإذا تَوَلَّى ، أي : مَلَكَ الأَمْرَ ، وصارَ والياً سَعَى في الأَرض{[56]} .
وقال مُجاهدٌ : إذا وُلِّي ، وعمل بالعُدوان ، والظُّلم ، أَمْسَكَ اللَّهُ المطر ، وأهلك الحرث والنَّسل{[57]} .
قوله : " فِي الأَرْضِ " مُتَعَلِّقٌ ب " سَعَى " ، فإنْ قيل : مَعْلُومٌ أنَّ السَّعْيَ لا يكُونُ إلاَّ فِي الأَرْضِ قيل : لأنَّهُ يُفيدُ العُمُومَ ، كأنه قيل : أيَّ مكانٍ حَلَّ فيه من الأرض أفسدَ فيه ، فَيَدُلُّ لفظُ الأَرْضِ على كَثرةِ فسادِهِ ، إذ يلزَمُ مِنْ عمومِ الظَّرفِ عمومُ المَظْرُوفِ ، و " ليُفْسِدَ " مُتَعَلّقٌ ب " سَعَى " علَّةً له .
قوله : " وَيُهْلِكَ الحَرْثَ " الجُمْهُورُ على : " يُهْلِكَ " بضمِّ اليَاءِ ، وكسر اللام ونصب الكافِ . " الحَرْثَ " مفعول به ، وهي قراءةٌ واضِحَةٌ من : أَهْلَكَ يُهْلك ، والنَّصبُ عطَفٌ على الفعل قبلُهُ ، وهذا شبيهٌ بقوله تعالى : { وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } [ البقرة : 98 ] فإنَّ قوله : " ليفْسِدَ " يَشْتَمِلُ على أَنَّهُ يُهْلكُ الحَرْثَ والنَّسْلَ ، فخصَّهُما بالذّكر لذلك . وقرأ أُبيّ{[58]} : " وليُهْلِكَ " بإظهارِ لام العِلَّةِ ، وهي معنى قراءة الجَمهور ، وقرأ أبو حَيوة - ورُويت عن ابن كثيرٍ وابن عمرو - " وَيَهْلِك الحَرْثُ والنَّسْلُ " بفتح الياءِ ، وكسر اللام من هلك الثَّلاثي ، و " الحَرْث " فاعلٌ ، و " النَّسلُ " عطفٌ عليه . وقرأ قومٌ : " ويُهْلِكُ الحَرْثَ " من أَهْلَكَ ، و " الحَرْث " مفعولٌ به إلا أَنَّهُم رفعُوا الكاف . وخُرِّجت على أربعةِ أوجهٍ : أن تكُونَ عَطْفاً على " يُعْجِبُك " أو على " سَعَى " ؛ لأَنَّهُ في معنى المُستقبل ، أو على خبر مُبْتَدأ محذوف ، أي : وهو يهلك ، أو على الاستئناف . وقرأ الحسن{[59]} : " ويهلك " مبنيا للمفعول ، " الْحَرْثُ " رفعاً ، وَقَرَأَ أيضاً : " ويَهلِكُ " بفتح الياءِ واللام ورفعِِ الكَافِ ، " الحَرْثُ " رفعا على الفاعلية ، وفتحُ عين المُضارع هنا شاذٌّ لفَتْحِ عين ماضِيهِ ، وَليس عينُهُ ولا لامُهُ حرفَ حَلْق ، فهو مثلُ رَكَنَ يَرْكَنُ بالفتح فيهما .
و " الحرث " في اللُّغة : الشَّقُّ ، ومنه المِحراثُ لام يُشقّ به الأرض ، والحرث : كسب المالِ وجمعه ، والحَرْثُ : الزَّرعُ ، والحرَّاث الزرَّاع ، وقد حرث ، واحترثَ مثل : زَرَعَ وازْدَرَعَ .
ويقالُ : احرثِ القرآن ؛ أي : ادرسه ، وحَرَثتُ النَّاقة وأحرثْتُها ، أي : سِرْتُ عليها حتَّى هزلت ، وحرثت النَّارَ حرّكتها والمِحراث ما يحرك به نار التَّنور نقله الجوهري . وقد تَقَدَّمَ .
والنَّسْلُ : مصدرُ نَسَلَ ينسُل ، أي : خرج بِسُرعة ، ومنه : نَسَلَ وَبَرُ البَعِير ، ونَسَلَ ريشُ الطَّائر ، أي : خَرَجَ وتطايَرَ وقال القُرطبيُّ{[60]} : النَّسْلُ ما خرج من كُلِّ أنثى من ولدٍ وأصله الخروج ، والسُّقُوط .
وقيل : النَّسلُ الخروج مُتتابعاً ، ومنه : " نُسَالُ الطَّائِر " ما تتابع سقُوطه من ريشه ؛ قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
وَإِنْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مِنِّ خَلِيقَةٌ *** فَسلِّي ثِيَابي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ{[61]}
وقوله : { مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ } [ الأنبياء : 96 ] يحتملُ المعنيين . و " الحَرْثَ وَالنَّسْلَ " وإن كانا في الأصلِ مصدَرَيْنِ فإنهما هنا واقعان موقَعَ المفعولِ به .
ذكرُوا في هذا التوَلِّي قولين :
أحدهما : معناه : إذا انْصَرَفَ من عندك سَعَى بالفسَادِ{[62]} ، وهذا الفَسَادُ يَحتمِلُ وجهَينِ :
أحدهما : إِتْلافُ الأموالِ بالتَّخريب ، والتَّحريق ، والنَّهب كما تقدَّم .
والوجه الثاني : أَنَّهُ كان بعد الانصرافِ من حَضْرَةِ النَّبِيِّ - عليه السَّلام - يلقي الشّبه في قلوب المؤمنين ويستخرج الحيل في تقوية الكُفْرِ ، قال تعالى حكاية عن فرعون { إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ } [ غافر : 26 ] وسمي هذا المعنى فساداً ، لأَنَّهُ يوقع اختلافاً بين النَّاس ، ويفرّق كلمتهم ، ويتبَّرأُ بعضهم من بعض ، فتنقطعُ الأَرْحام وتُسفَكُ الدماءُ .
القول الثَّاني في التَّوَلِّي والسَّعي ؛ أي : رجع عن قوله واجتهد في إيقاع الفساد ، وأصل السَّعي المشي بسرعةٍ ، ولكنَّهُ يستعارُ لإِيقاع الفِتنة بيْنَ النَّاسِ ، ومنه يُقالُ : فلان يَسْعَى بالنَّميمة ، والمراد ب " الحَرْث " الزَّرْعُ وب " النَّسل " : تلك الحمر على التَّفْسِير الأَوَّل ، وهو يَقَعُ على ما يُحْرَثُ ويُزْرَعُ .
وقيل : إِنَّ الحَرثَ هو شَقُّ الأرض ، ويقالُ لما يُشقّ به : محرث .
والنَّسلُ في اللُّغة الوَلَدُ ، ومن قال : إِنَّ الأَخنس بيَّت على قوم ثقيف وقتل منهم جمعاً ، فالمراد بالحرث : الرجال والنساء .
أمَّا النساء فلقوله تعالى : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 223 ] .
وأَمَّا الرجال : فهم الذين يشقون أرض التوليد ، وأَمَّا النسلُ فالمراد منه الصبيان .
قوله : { وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ } .
قال العباس بن الفضل : الفسادُ هو الخرابُ{[63]} .
وقال سعيد بن المسيب : قطع الدراهم من الفساد في الأرض{[64]} .
وقال عطاء : كان رجل يقال له عطاء بن منبه أحرم في جُبَّةٍ ، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزعها .
قال قتادة : قلت لعطاء : إِنَّا كنا نسمع أن يشقها ، فقال عطاء : إِنَّ اللَّهَ لا يحب الفساد{[65]} .
قال القرطبي{[66]} : والآية تَعُمُّ كُلَّ فساد كان في الأرض ، أو مالٍ أو دين ، وهو الصحيح .
وقيل : معناه لا يجب الفساد من أهل الصلاح ، أو لا يحبه ديناً ، أو المعنى لا يأمر به .
فصل في بيان فساد قول المعتزلة في معنى المحبة
استدلت المعتزلة به على أَنَّهُ تبارك وتعالى لا يريد القبائح ، قالوا : المحبة عبارة عن الإرادة لقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُواْ } [ النور : 19 ] والمرادُ أنهم يُرِيدونَ .
وأيضاً : نُقِل عن النبيِّ - عليه السلامُ - أَنَّهُ قال : " إِنَّ اللَّهَ أَحَبَّ لَكُمْ ثَلاَثاً ، وكره لكُم ثلاثاً : أَحَبَّ لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوه وَلاَ تُشْرِكُوا به شَيْئاً ، وأَنْ تتَنَاصحُوا منْ وَلاّهُ أَمْرَكُم ، ويَكْرَهُ لَكُمْ القيل والقَالَ ، وإضاعَة المال ، وكثرةَ السُّؤالِ{[67]} " فجعل الكراهةَ ضِدَّ المحبةِ ، وإذا ثبتَ أَنَّ الإرادة نفسُ المحبةِ ، فقوله : { وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ } ، كقوله : لا يُريدُ الفساد ، وكقوله { وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ } [ غافر : 31 ] ، وإذا كان لا يريدُ الفساد ، لا يكون خالقاً له ؛ لأنَّ الخلقَ لا يمكن إلاَّ مع الإرادة ، وأُجيبُوا بوجهين :
أحدهما : أَنَّ المحبة غيرُ الإِرادة ، بل المحبَّةُ عبارةٌ عن مَدح الشيء .
والثاني : سَلَّمنا أَنَّ المحبةَ نفسُ الإرادة ، لكن قوله تعالى { وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ } [ البقرة : 205 ] لا يُفيد العُموم ؛ لأنَّ الألف واللاَّم الداخلتين في اللفظ لا يُفيدان العمومَ ، ثم يهدم كلامهم وجهان :
الأول : أَنَّ قُدرة العبد صالحةٌ للإصلاح ، والفساد ؛ فترجُّحُ الفساد على الصلاح إِنْ وقع لا لمُرجح ، لزم نفيُ الصانعِ ، وإنْ وقع لمرجح ، فذلك المرجّح لا بُدَّ وأنْ يكونَ من اللَّهِ ؛ وإِلاَّ لَزِمَ التسلسلُ ، فثبت أَنَّ اللَّهَ سُبحانه هو المرجح لجانب الفساد ، فكيف يعقِلُ أَنْ يُقال إِنَّهُ لا يريده ؟
والثاني : أَنَّهُ عالِمٌ بوقوع الفسادِ ، فإن أراد أَلاَّ يقع الفسادُ ، لزم أَنْ يُقال : إِنَّه أَراد أَنْ يقلب علم نفسه جهلاً ، وذلك مُحَالٌ .