الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ} (205)

قوله تعالى : { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى } : " سَعَى " جوابُ إذا الشرطية وهذه الجملةُ الشرطيةُ تحتملُ وَجْهَيْنِ ، أحدُهما : أن تكونَ عطفاً على ما قبلَها وهو " يُعْجِبُكَ " فتكون : إمَّا صلةً أو صفةً حسب ما تقدَّم في " مَنْ " ، والثاني أن تكونَ مستأنفةً لمجردِ الاخبارِ بحالِهِ ، وقد تَمَّ الكلامُ عند قولِهِ : " ألدُّ الخصام " .

والتولِّي والسَّعْيُ يحتملان الحقيقةَ أي : تولَّى ببدنِهِ عنكَ وسعى بِقَدَمَيْهِ ، والمجازَ بأن يريدَ بالتولِّي الرجوعَ عن القولِ الأولِ ، وبالسعي العملَ والكَسْبَ من السَّعاية ، وهو مجازٌ شائعٌ ، ومنه : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى } [ النجم : 39 ] وقال امرؤُ القيس :

فلو أنَّ ما أسْعى لأدنى معيشةٍ *** كفاني ولم أَطْلُبْ قليلٌ من المالِ

ولكنَّمَا أسعى لمجدٍ مُؤثَّلٍ *** وقد يُدْرِكُ المجدَ المؤثَّلَ أَمْثَالي

وقال آخر :

أسعى على حَيِّ بني مالِكِ *** كلُّ امرىءٍ في شَأْنِهِ ساعي

والسَّعايَةُ بالقولِ ما يقتضي التفريقَ بين الأخِلاَّءِ ، قال :

ما قلتُ ما قال وشاةٌ سَعَوْا *** سَعْيَ عَدُوٍ بَيْنَنَا يَرْجُفُ

قوله : { فِي الأَرْضِ } " متعلِّقٌ ب " سَعَىَ " ، فإنْ قيل : معلومٌ أنَّ السَّعْيَ لا يكونُ إلاَّ في الأرضِ قيل : لأنه يُفيدُ العمومَ ، كأنه قيل : أيَّ مكانٍ حَلَّ فيه من الأرضِ أفسدَ فيه ، فَيَدُلُّ لفظُ الأرضِ على كثرة فسادِهِ ، إذ يلزَمُ مِنْ عمومِ الظَّرفِ عمومُ المظروفِ ، و " ليفسِدَ " متعلقٌ ب " سعى " علةً له .

قوله : { وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ } الجمهورُ على : " يُهْلِكَ " بضم الياء وكسر اللامِ ونصبِ الكافِ . " الحَرْثَ " مفعولٌ به ، وهي قراءةٌ واضحةٌ من : أَهْلَكَ يُهْلك ، والنصبُ عطفٌ على الفعِل قبلَهُ ، وهذا شبيهٌ بقولِهِ تعالى : { وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } [ البقرة : 98 ] فإنَّ قولَه : " ليفسدَ " يشتملُ على أنه يُهْلكُ الحرثَ والنسلَ ، فخصَّهُما بالذكر لذلك . وقرأ أُبيّ : " وليُهْلِكَ " بإظهارِ لامِ العلة وهي معنى قراءةِ الجمهور ، وقرأ أبو حيوة - ورُويت عن ابن كثير وأبي عمرو - " وَيَهْلِكَ الحرثُ والنَّسْلُ " بفتح الياء وكسرِ اللام من هَلَك الثلاثي ، و " الحرث " فاعل ، و " النسلُ " عطفٌ عليه . وقرأ قوم : " ويُهْلِكُ الحرثَ " من أَهْلَكَ ، و " الحرث " مفعولٌ به إلا أنهم رفعوا الكافَ . وخُرِّجتْ على أربعةِ أوجهٍ : أن تكونَ عطفاً على " يُعْجِبُك " أو على " سَعَى " لأنه في معنى المستقبل ، أو على خبر مبتدأٍ محذوفٍ أي : وهو يُهْلِكُ ، أو على الاستئنافِ . وقرأ الحسن : " ويُهْلَكَ " مبنياً للمفعول ، " الحَرْثُ " رفعاً ، وقرأ أيضاً : " ويَهَلَكُ " بفتح الياء واللامِ ورفعِ الكافِ ، " الحرثُ " رفعاً على الفاعلية ، وفتحُ عينِ المضارعِ هنا شاذٌّ لفَتْحِ عينِ ماضِيهِ ، وليس عينُهُ ولا لامُهُ حرفَ حلقٍ فهو مثلُ رَكَنَ يَ‍رْكَنُ بالفتحِ فيهما . و " ألحَرثُ " تقدَّم .

والنَّسْلُ : مصدرُ نَسَلَ ينسُل أي : خَرَجَ بسرعة ، ومنه : نَسَلَ وَبَرُ البعيرِ ، ونَسَلَ ريشُ الطائِر أي : خَرَجَ وتطايَرَ ، وقيل : النسلُ الخروجُ متتابعاً ، ومنه : " نُسالُ الطائر " ما تتابعَ سقوطُهُ من ريشِهِ ، قال امرؤُ القيس :

وإنهْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مني خليقَةٌ *** فَسُلِّي ثيابي من ثيابِكِ تَنْسُلِ

وقوله : { مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ } [ الأنبياء : 96 ] يحتمِلُ المعنيين . و " الحرثَ والنسلَ " وإن كانا في الأصلِ مصدَرَيْنِ فإنهما هنا واقعان موقعَ المفعولِ به .