مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (39)

قوله تبارك وتعالى : { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } لما وعد الله متبع الهدى بالأمن من العذاب والحزن عقبه بذكر من أعد له العذاب الدائم فقال : { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا } سواء كانوا من الإنس أو من الجن فهم أصحاب العذاب الدائم .

وأما الكلام في أن العذاب هل يحسن أم لا وبتقدير حسنه فهل يحسن دائما أم لا ؟ فقد تقدم الكلام فيه في تفسير قوله : { وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم } وههنا آخر الآيات الدالة على النعم التي أنعم الله بها على جميع بني آدم وهي دالة على التوحيد من حيث إن هذه النعم أمور حادثة فلابد لها من محدث وعلى النبوة من حيث إن محمدا صلى الله عليه وسلم أخبر عنها موافقا لما كان موجودا في التوراة والإنجيل من غير تعلم ولا تلمذة لأحد وعلى المعاد من حيث إن من قدر على خلق هذه الأشياء ابتداء قدر على خلقها إعادة وبالله التوفيق .

القول في النعم الخاصة ببني إسرائيل

اعلم أنه سبحانه وتعالى لما أقام دلائل التوحيد والنبوة والمعاد أولا ثم عقبها بذكر الإنعامات العامة لكل البشر عقبها بذكر الإنعامات الخاصة على أسلاف اليهود كسرا لعنادهم ولجاجهم بتذكير النعم السالفة واستمالة لقلوبهم بسببها وتنبيها على ما يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من حيث كونها إخبارا عن الغيب . واعلم أنه سبحانه ذكرهم تلك النعم أولا على سبيل الإجمال فقال : { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } وفرع على تذكيرها الأمر بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال : { وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم } ثم عقبها بذكر الأمور التي تمنعهم عن الإيمان به ، ثم ذكرهم تلك النعم على سبيل الإجمال ثانيا بقوله مرة أخرى : { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } تنبيها على شدة غفلتهم ، ثم أردف هذا التذكير بالترغيب البالغ بقوله : { وأني فضلتكم على العالمين } مقرونا بالترهيب البالغ بقوله : { واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا } إلى آخر الآية ، ثم شرع بعد ذلك في تعديد تلك النعم على سبيل التفصيل ومن تأمل وأنصف علم أن هذا هو النهاية في حسن الترتيب لمن يريد الدعوة وتحصيل الاعتقاد في قلب المستمع . وإذ قد حققنا هذه المقدمة فلنتكلم الآن في التفسير بعون الله .