الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (39)

قوله : { وَالَّذِينَ كَفَرواْ ، إلى قوله : خَالِدُونَ } : " الذين " مبتدأ وما بعده صلةٌ وعائدٌ ، و " بآياتنا " متعلقٌ بكذَّبوا . ويجوز أن تكونَ الآيةُ من بابِ الإِعمال ، لأنَّ " كفروا " يَطْلُبها ، ويكونُ من إعمالِ الثاني للحذف من الأول ، والتقديرُ : كفروا بنا وكَذَّبوا بآياتِنا . و " أولئك " مبتدأٌ ثانٍ و " أصحابُ " خبرُه ، والجملةُ خبرُ الأولِ ، ويجوزُ أن يكونَ " أولئك " بدلاً من الموصول أو عطفَ بيان له ، و " أصحابُ " خبرَ المبتدأ الموصول . وقوله : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } جملةٌ اسميةٌ في محلِّ نصبٍ على الحالِ للتصريحِ بذلك في مواضعَ . قال تعالى : { أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ } [ التغابن : 10 ] . وأجاز أبو البقاء أن تكونَ حالاً من " النار " ، قال : " لأنَّ فيها ضميراً يعودُ عليها ، ويكونُ العامل فيها معنى الإِضافةِ أو اللام المقدَّرَةَ " . انتهى . وقد عُرِف ما في ذلك .

ويجوز أن تكونَ في محلِّ رفع خبراً لأولئك ، وأيضاً فيكونُ قد أُخْبِرَ عنه بخبرين ، أحدُهما مفردٌ وهو " أصحابُ " . جملةٌ ، وقد عُرَف ما فيه من الخلافِ .

و " فيها " متعلقٌ ب " خالدون " . قالوا : وحُذِف من الكلام الأول ما أُثْبِتَ في الثاني ، ومن الثاني ما أُثْبِتَ في الأول ، والتقدير : فَمَنْ تبع هُدايَ فلا خوفٌ ولا حُزْنٌ يَلْحَقُه وهو صاحبُ الجنةِ ، ومَنْ كَفَر وكَذَّب لَحِقَه الحزنُ والخوفُ وهو صاحبُ النار لأنَّ التقسيمَ يقتضي ذلك ، ونظَّروه بقولِ الشاعر :

وإني لَتَعْروني لِذِكْراكِ فَتْرَةٌ *** كما انتفَضَ العصفورُ بلَّلَه القَطْرُ

والآيَةُ [ لغةً ] : العلامةُ ، قال النابغةُ الذبياني :

تَوَهَمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفْتُها *** لستةِ أعوامٍ وذا العامُ سابِعُ

وسُمِّيَتْ آيةُ القرآنِ [ آيةً ] لأنها علامةٌ لانفصالِ ما قبلَها عمَّا بعدَها . وقيل : سُمِّيَتْ بذلك لأنها تَجْمَعُ حروفاً من القرآن فيكون مِنْ قولِهم : " خرج بنو فلان بآيتِهم " أي : بجماعتهم ، قال الشاعر :

خَرَجْنا مِن النَّقْبَيْنِ لا حَيَّ مِثْلُنا *** بآياتِنا نُزْجي اللِّقاحَ المَطافِلاَ

واختلف النحويون في وَزْنِها : فمذهب سيبويه والخليلِ أنها فَعَلَة ، والأصل : أَيَية بفتح العين ، تحرَّكَتِ الياء وانفتح ما قبلَها فَقُلِبت ألفاً ، وهذا شاذٌ ، لأنه إذا اجتمع حرفا عِلة أُعِلَّ الأخيرُ ، لأنه مَحَلُّ التغييرِ نحو : هَوَى وحَوَى ، ومثلُها في الشذوذِ : غاية وطاية وراية .

ومذهبُ الكسائي أن وَزنَها آيِيَة على وزن فاعِلة ، فكانَ القياسُ أن يُدْغَمَ فيقال : آيَّة كدابَّة إلا أنه تُرِكَ ذلك تخفيفاً ، فحذَفُوا عينَها كما خفَّفوا كَيْنونة والأصل : كيَّنونة بتشديد الياء ، وضَعَّفُوا هذا بأنَّ بناءَ كيَّنونة أثقلُ فناسَبَ التخفيفُ بخلافِ هذه .

ومذهبُ الفرَّاء أنَّها فَعْلةٌ بسكونِ العين ، واختاره أبو البقاء قال : " لأنها من تَأَيَّا القوم أي اجتمعوا ، وقالوا في الجمع : آياء ، فَظَهَرَتِ الياءُ [ الأولى ] ، والهمزةُ الأخيرةُ بدلٌ من ياء ، ووزنُه أَفْعال ، والألفُ الثانيةُ بدلٌ من همزةٍ هي فاءُ الكلمة ، ولو كانَتْ عينُها واواً لقالوا في الجمع ، آواء ، ثم إنهم قَلَبوا الياءَ الساكنةَ ألفاً على غيرِ قياس " انتهى . يعني أنَّ حرفَ العلَّةِ لا يُقْلَبُ حتى يَتَحَرَّكَ وينفتحَ ما قبله .

وذهبَ بعضُ الكوفيين إلى أن وزنها أَيِيَة ، بكسر العين مثل : نَبِقَة فَأُعِلَّ ، وهو في الشذوذِ كمذهبِ سيبويه والخليل . وقيل وزنُها : فَعُلَة بضم العين ، وقيل أصلُها : أياة بإعلال الثاني ، فَقُلبت بأَنْ قُدِّمَتِ اللامُ وأُخِّرَتِ العينُ وهو ضعيفٌ . فهذه ستةُ مذاهبَ لا يَسْلَمُ كلُّ واحدٍ منها من شذوذٍ .