نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (39)

ولما بشر المؤمنين الذين {[1965]}اتبعوا الهدى{[1966]} أتبعه إنذار الكافرين{[1967]} الذين نابذوه{[1968]} بقوله : { والذين كفروا{[1969]} } قال الحرالي : هذا من أسوأ{[1970]} الكفر لأنه كفر بالآيات التي جعلها الله عز وجل علماً{[1971]} على غيب عهده وهي{[1972]} ما تدركه جميع{[1973]} الحواس من السماء والأرض وما بينهما كما{[1974]} قال تعالى :

{ ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة{[1975]} }[ الشورى : 29 ] لأن الحق تعالى أظهر الكون كتابة{[1976]} دالة على أمره وجعل في العقل نوراً يُقرأ به كتابه{[1977]} ، فمن لا نور له فهو من أصحاب النار ، فهو إما تابع هدى بنور العقل وتنبيه الإيمان ، وإما صاحب نار ، فقال : { وكذبوا بآياتنا } لأنه لما كان من الذين كفروا بكتاب الخلق من تقبّل الإيمان بتنزيل الأمر اختصت كلمة العذاب بالذين تأكد كفرهم بالآيات المرئية{[1978]} بتكذيبهم بالآيات المنزلة ، فكفروا بما رأوا فكانوا عمياً ، وكذبوا بما سمعوا فكانوا صُمّاً - انتهى .

والمعنى أنهم جمعوا بالكفر والتكذيب بين إنكار القلوب{[1979]} والألسنة { أولئك } أي البُعَداء البغضاء { أصحاب النار } وبين اختصاصهم بالخلود بقوله : { هم فيها خالدون }{[1980]} فعليهم الخوف الدائم لما يأتي من أنكالها والحزن الدائم على فوات الجنة ، فالآية من الاحتباك{[1981]} ، انتفاء الخوف والحزن من الأول دال على وجودهما في الثاني ، ووجود النار في الثاني دال على انتفائها ووجود الجنة في الأول{[1982]} ، {[1983]}وقد علم{[1984]} من ذلك مع قوله { مستقر ومتاع إلى حين } أنه لا بد من رجوعهم إلى تلك الدار وكيف تكون منازلهم فيها ! فكأنه جواب سائل قال : هل بعد هذا الهبوط من صعود ؟ قال الحرالي : وقوله : { هم } فيه إشعار بإشراب العذاب بواطنهم وبلاغه إلى أنفسهم بعذاب الغم والحزن واليأس وغير ذلك من إحراق النار بواطنهم ، وفيه{[1985]} إشعار بكونهم فيها في الوقت الحاضر من حيث لا يشعرون{[1986]} " الذي يشرب في آنية الذهب إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " والنار أقرب إلى أحدهم من شراك نعله . فهم فيها خالدون وإن لم يحسوا في الدنيا{[1987]} بحقيقتها ، كما أن المهتدين في جنة في الدني{[1988]} وإن لم يشهدوا عيانها ، فكل خالد فيما هو فيه في الدنيا غيباً وفي الآخرة عياناً وفي القبر عرضاً

{ لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين{[1989]} }[ التكاثر : 6 ، 7 ]

{ النار يعرضون عليها غدواً وعشياً{[1990]} }[ غافر : 46 ] وهنا انتهى خطاب الفرقان المخصوص بدعوة العرب الذين هم رأس{[1991]} أهل الدعوة المحمدية صلى الله عليه وسلم : " الناس كلهم تبع لقريش ، مؤمنهم لمؤمنهم ، وكافرهم لكافرهم " انتهى . يعني فهم المرادون بهذا بالقصد الأول ، وهو شامل لغيرهم ، ومراد به ذلك الغير بالقصد الثاني ، {[1992]}وهنا آخر الآيات الخاصة بالنعم العامة لجميع بني آدم دالة على التوحيد من حيث إنها حادثة فلها محدث ، وعلى النبوة من حيث إنه صلى الله عليه وسلم أخبر عنها موافقاً لما في التوراة والإنجيل من غير تعلم ، وعلى المعاد من حيث إن من قدر على خلقها ابتداء قدر على إعادتها - ذكره الأصفهاني عن الإمام . وفي الآية إشارة إلى الكتاب الذي هو هدى للمتقين المشتمل على الأحرف السبعة التي{[1993]} من أقبل على حرف منها حق الإقبال كفاه ، ومن اشتغل عنها بالمتاع الأدنى خسر دنياه وأخراه .

قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في التمهيد لشرط{[1994]} مثال القراءة لحروفه السبعة وعلمها والعمل بها : اعلم أن الله سبحانه خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه ورزقه نوراً من نوره ، فلأنه خلقه بيده كان في أحسن تقويم خلقاً ، ولأنه نفخ فيه من روحه كان أكمل حياة قبضاً وبسطاً ، ولأنه رزقه نوراً من نوره كان أصفى عقلاً وأخلص لباً وأفصح نطقاً وأعرب بياناً جمعاً وفصلاً ، و{[1995]}أطلعه على ما كتب من حروف مخلوقاته إدراكاً وحساً ، وعقّله{[1996]} ما أقام من أمره فهماً وعلماً ، ونبهه على ما أودعه في ذاته عرفاناً ووجداً ؛ ثم جعل له فيما سخر له من خلقه متاعاً وأنساً فأناسه{[1997]} وردده من{[1998]} بين إقبال وإدبار وقبول وإعراض ، فمن شغل بالاستمتاع الأدنى عن الاطلاع الأعلى كان سفيهاً ، ومن شغله الاطلاع الأعلى عن الاستمتاع الأدنى كان حنيفاً

{ الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري{[1999]} }[ الكهف : 101 ]

{ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه{[2000]} }[ البقرة : 130 ]

{ إن إبراهيم كان{[2001]} أمة قانتاً لله حنيفاً{[2002]} }[ النحل : 120 ] . ولما كان متاع الخلق في الأرض إلى حين وشغل أكثرهم أكلهم وتمتعهم وألهاهم أملهم عن حظهم من الحنيفية بما أوتي العقل من التبليغ عن الله نظراً واعتباراً اصطفى الله سبحانه من الحنفاء منبهين على النظر الذي اشتغل عنه المعرضون وأنف منه واستكبر عنه المدبرون ، وأكدوا تنبيههم بما أسمعوهم من نبأ ما وراء يوم الدنيا من أمر الله في اليوم الآخر وما تتمادى{[2003]} إليه أيام الله ، وذكروهم بما مضى من أيام الله ، وأنزل الله سبحانه معهم كتباً يتلونها عليهم ويبينونها لهم علماً وعملاً وحالاً ، فقبل ما جاؤوا به وصدقه واستبشر به الحنيفيون وأنذر به المدبرون والمعرضون ، فمنهم من آمن ومنهم من كفر ، آمن من تنبه للنظر والاعتبار وألقى السمع وهو شهيد ، وكفر من آثر متاعه بالعاجلة التي تراها الأعين على وعد الله ووعيده في الآجلة التي إنما يعيها القلب وتسمعها الأذن ، وكما شغل المدعوين إلى الإسلام كفرهم ودنياهم كذلك شغل المولّدين{[2004]} في الإسلام غفلتهم ودنياهم ولعبهم في صباهم ولهوهم في شبابهم وتكاثرهم في الأموال في اكتهالهم{[2005]} وتكاثرهم في الأولاد في شَياخهم ، فاشترك المدعو إلى الإسلام والمولد فيه الغافل في عدم الإقبال والقبول في ترك الاهتمام في الآجلة واختصارهما على الاهتمام بالعاجلة ، وكلاهما جعل القرآن وراء ظهره المدعو لفظاً وعلماً والمولد الغافل علماً{[2006]} وعملاً ، فلم يسمعه المدعو ولم يفهمه الغافل فجعله بالحقيقة وراء ظهره ، ومن جعل القرآن خلفه ساقه إلى النار ، وإنما جعله أمامه من قرأه{[2007]} علماً وحالاً وعملاً ، ومن جعل القرآن أمامه قاده إلى الجنة ؛ ولما قامت الحجة عليهم بقراءته إذا لم يجاوز حناجرهم كانوا أشد من الكفار عذاباً في النار - أكثر منافقي{[2008]} أمتي قراؤها ،

{ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار{[2009]} }[ النساء : 145 ] فإذاً لا بد في قراءة القرآن من تجديد إقبال وتهيُّؤ لقبول وتحقيق تقوى لأنه إنما هو هدى للمتقين ، وإجماع على الاهتمام ، وكما أن أمور الدنيا لا تحصل لأهلها إلا على قدر عزائمهم واهتمامهم فأحرى أن لا يحصل أمر الأخرى إلا بأشد عزيمة وأجمع اهتمام ، فلا يقرأ القرآن من لم يقبل عليه بكلية ظاهره ويجمع اهتمامه له بكلية باطنه

وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء{[2010]} }[ الأعراف : 145 ] فخذها بقوة

{ يا يحيى خذ الكتاب بقوة{[2011]} }[ مريم : 13 ]

{ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك{[2012]} }[ هود : 112 ] فشرط منال{[2013]} قراءته اهتمام القلب بتفهمه وإقبال الحس على استماعه وتدبره ؛ ولكل حرف شرط يخصه - انتهى .


[1965]:ليست في ظ.
[1966]:ليست في ظ.
[1967]:ليست في ظ.
[1968]:ليست في ظ.
[1969]:زيد في مد: فلم يتبعوا الهدى.
[1970]:قال المهائمي "والذين كفروا" أي أنكروا ذلك الهدى بتلك الاحتمالات البعيدة بل الباطلة بكونه هدى في نفسه "وكذبوا بآياتنا" الواقع صدقتها في القلوب بالضرورة فلا يرفعون إلى الجنة ولا يتركون في محل الهبوط المذكور بل يهبطون عنها إلى أسفل السافلين إذ "أولئك أصحاب النار" أي لا انتقال لهم عنها كأهل الإهباط الأول بل "هم فيها خالدون" إذ لا يتم الابتلاء إلا بإبعاد العذاب الخالد ولا يتم إلا بالإيفاء به.
[1971]:في ظ: علم.
[1972]:زيد في ظ: جميع.
[1973]:ليس في ظ.
[1974]:ليس في ظ.
[1975]:سورة 42 آية 29.
[1976]:من مد وظ، وفي الأصل: كناية.
[1977]:في ظ: كتابته.
[1978]:في ظ: المراة – كذا.
[1979]:في ظ: القلب.
[1980]:العبارة من هنا إلى "في الأول" ليست في ظ.
[1981]:قال أبو حيان في قوله: "أولئك أصحاب النار" دلالة على اختصاص من كفر وكذب بالنار، فيفهم أن من اتبع الهدى هم أصحاب الجنة، وكان التقسيم يقتضي أن من اتبع الهدى لا خوف ولا حزن يلحقه وهو صاحب الجنة، ومن كذب يلحقه الخوف والحزن وهو صاحب النار، فكأنه حذف من الجملة الأولى شيء أثبت نظيره في الجملة الثانية ومن الثانية شيء أثبت نظيره في الجملة الأولى فصار نظير قول الشاعر: وإني لتعروني لذاكر فترة كما انتفض العصفور بالله القطر. أقول هذا هو الاحتباك الذي قاله الحرالي، فالآية من الاحتباك.
[1982]:زيد في مد: وفيها احتباك آخر، لأن إثبات اتباع الهدى في الأول دال على انتفائه في الثاني: وإثبات الكفر في الثاني دال على حذف الإيمان من الأول.
[1983]:وفي ظ: فعلم.
[1984]:وفي ظ: فعلم.
[1985]:في ظ: فيها.
[1986]:قال البيضاوي: وفيها دلالة على أن الجنة مخلوقة، وأنها في جهة عالية، وأن التوبة مقبولة، وأن متبع الهدى مأمون العاقبة، وأن عذاب النار دائم والكافر فيه مخلد، وأن غيره لا يخلد فيه لمفهوم قوله تعالى "هم فيها خالدون" قال أبو حيان: في قوله "أولئك" إشارة إلى الذوات المتصفة بالكفر والتكذيب وكأن فيها تكريرا وتوكيدا لذكر المبتدأ السابق، والصحبة معناها الاقتران بالشيء، والغالب في العرف أن ينطلق على الملازمة وإن كان أصلها في اللغة أن تنطلق على مطلق الاقتران، والمراد بها هنا الملازمة الدائمة، ولذلك أكده بقوله "هم فيها خالدون".
[1987]:ليست في ظ.
[1988]:ليست في ظ.
[1989]:سورة 102 آية 6 و 7
[1990]:سورة 40 آية 46.
[1991]:في ظ: رسل.
[1992]:العبارة من هنا إلى "عن الإمام" ليست في ظ.
[1993]:زيد في ظ: هي.
[1994]:في ظ: شرط.
[1995]:ليس في ظ.
[1996]:في ظ: علله
[1997]:في ظ: ناسه.
[1998]:ليس في ظ.
[1999]:سورة 18 آية 101.
[2000]:سورة 2 آية 130.
[2001]:من ظ ومد والقرآن الكريم ووقع في الأصل: كانت – خطأ.
[2002]:سورة 16 آية 120.
[2003]:في ظ: يتمادى.
[2004]:في ظ: الموكدين.
[2005]:في ظ: اكتالهم – كذا.
[2006]:في ظ: - عملا – كذا.
[2007]:في ظ: قرا.
[2008]:في ظ: منافقوا.
[2009]:سورة 4 آية 145.
[2010]:سورة 7 آية 145.
[2011]:سورة 19 آية 13 وهذه الآية ليست في ظ.
[2012]:سورة 11 آية 112.
[2013]:في مد: مثال.