مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{۞وَمَن يَقُلۡ مِنۡهُمۡ إِنِّيٓ إِلَٰهٞ مِّن دُونِهِۦ فَذَٰلِكَ نَجۡزِيهِ جَهَنَّمَۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلظَّـٰلِمِينَ} (29)

أما قوله تعالى : { ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم } فالمعنى أن كل من يقول من الملائكة ذلك القول فإنا نجازي ذلك القائل بهذا الجزاء ، وهذا لا يدل على أنهم قالوا ذلك أو ما قالوه وهو قريب من قوله تعالى : { لئن أشركت ليحبطن عملك } وههنا مسائل :

المسألة الأولى : هذه الصفات تدل على العبودية وتنافي الولادة لوجوه . أحدها : أنهم لما بالغوا في الطاعة إلى حيث لا يقولون قولا ولا يعملون عملا إلا بأمره فهذه صفات للعبيد لا صفات الأولاد . وثانيها : أنه سبحانه لما كان عالما بأسرار الملائكة وهم لا يعلمون أسرار الله تعالى وجب أن يكون الإله المستحق للعبادة هو لا هؤلاء الملائكة وهذه الدلالة هي نفس ما ذكره عيسى عليه السلام في قوله : { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } . وثالثها : أنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى ومن يكن إلها أو ولدا للإله لا يكون كذلك . ورابعها : أنهم على نهاية الإشفاق والوجل وذلك ليس إلا من صفات العبيد . وخامسها : نبه تعالى بقوله : { ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم } على أن حالهم حال سائر العبيد المكلفين في الوعد والوعيد فكيف يصح كونهم آلهة .

المسألة الثانية : احتجت المعتزلة بقوله تعالى : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } على أن الشفاعة في الآخرة لا تكون لأهل الكبائر لأنه لا يقال في أهل الكبائر إن الله يرتضيهم . والجواب : قال ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك : { إلا لمن ارتضى } أي لمن قال لا إله إلا الله . واعلم أن هذه الآية من أقوى الدلائل لنا في إثبات الشفاعة لأهل الكبائر وتقريره هو أن من قال لا إله إلا الله فقد ارتضاه تعالى في ذلك ومتى صدق عليه أنه ارتضاه الله تعالى في ذلك فقد صدق عليه أنه ارتضاه الله لأن المركب متى صدق فقد صدق لا محالة كل واحد من أجزائه ، وإذا ثبت أن الله قد ارتضاه وجب اندراجه تحت هذه الآية فثبت بالتقرير الذي ذكرناه أن هذه الآية من أقوى الدلائل لنا على ما قرره ابن عباس رضي الله عنهما .

المسألة الثالثة : هذه الآية تدل على أمور ثلاثة : أحدها : تدل على كون الملائكة مكلفين من حيث قال : { لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } { وهم من خشيته مشفقون } ومن حيث الوعيد . وثانيها : تدل أيضا على أن الملائكة معصومون لأنه قال : { وهم بأمره يعملون } . وثالثها : قال القاضي عبد الجبار قوله : { كذلك نجزي الظالمين } يدل على أن كل ظالم يجزيه الله جهنم كما توعد الملائكة به وذلك يوجب القطع على أنه تعالى لا يغفر لأهل الكبائر في الآخرة . والجواب : أقصى ما في الباب أن هذا العموم مشعر بالوعيد وهو معارض بعمومات الوعيد .