مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَتِلۡكَ نِعۡمَةٞ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنۡ عَبَّدتَّ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ} (22)

فأما قوله : { وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل } فهو جواب قوله : { ألم نربك فينا وليدا } يقال عبدت الرجل وأعبدته إذا اتخذته عبدا ، فإن قيل كيف يكون ذلك جوابه ولا تعلق بين الأمرين ؟ قلنا بيان التعلق من وجوه . أحدها : أنه إنما وقع في يده وفي تربيته لأنه قصد تعبيد بني إسرائيل وذبح أبنائهم ، فكأنه عليه السلام قال له كنت مستغنيا عن تربيتك لو لم يكن منك ذلك الظلم المتقدم علينا وعلى أسلافنا . وثانيها : أن هذا الإنعام المتأخر صار معارضا بذلك الظلم العظيم على أسلافنا وإذا تعارضا تساقطا . وثالثها : ما قاله الحسن : إنك استعبدتهم وأخذت أموالهم ومنها أنفقت علي فلا نعمة لك بالتربية . ورابعها : المراد أن الذي تولى تربيتي هم الذين قد استعبدتهم فلا نعمة لك علي لأن التربية كانت من قبل أمي وسائر من هو من قومي ليس لك إلا أنك ما قتلتني ، ومثل هذا لا يعد إنعاما . وخامسها : أنك كنت تدعي أن بني إسرائيل عبيدك ولا منة للمولى على العبد في أن يطعمه ويعطيه ما يحتاج إليه .

واعلم أن في الآية دلالة على أن كفر الكافر لا يبطل نعمته على من يحسن إليه ولا يبطل منته لأن موسى عليه السلام إنما أبطل ذلك بوجه آخر على ما بينا ، واختلف العلماء فقال بعضهم إذا كان كافرا لا يستحق الشكر على نعمه على الناس إنما يستحق الإهانة بكفره ، فلو استحق الشكر بإنعامه والشكر لا يوجد إلا مع التعظيم فيلزم كونه مستحقا للإهانة وللتعظيم معا ، واستحقاق الجمع بين الضدين محال ، وقال آخرون لا يبطل الشكر بالكفر وإنما يبطل بالكفر الثواب والمدح الذي يستحقه على الإيمان ، والآية تدل على هذا القول الثاني .

المسألة الثانية : قال صاحب الكشاف إنما جمع الضمير في { منكم } و{ خفتكم } مع إفراده في { تمنها } و{ عبدت } لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده ولكن منه ومن ملائه المؤتمرين بقتله ، بدليل قوله : { إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك } وأما الامتنان فمنه وحده وكذلك التعبيد ، فإن قلت : { تلك } إشارة إلى ماذا و{ أن عبدت } ما محلها من الإعراب ؟ قلت : { تلك } إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة لا يدرى ما هي إلا بتفسيرها وهي { أن عبدت } فإن { أن عبدت } عطف بيان ونظيره قوله تعالى : { وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين } والمعنى تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها علي ، وقال الزجاج : ويجوز أن يكون ( أن ) في موضع نصب ، والمعنى إنما صارت نعمة علي ، لأن عبدت بني إسرائيل أي لو لم تفعل ذلك لكفاني أهلي .