مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٞ} (92)

قوله تعالى { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } .

اعلم أنه تعالى لما بين أن الإنفاق لا ينفع الكافر البتة علم المؤمنين كيفية الإنفاق الذي ينتفعون به في الآخرة ، فقال : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } وبين في هذه الآية أن من أنفق مما أحب كان من جملة الأبرار ، ثم قال في آية أخرى { إن الأبرار لفي نعيم } [ المطففين : 22 ] وقال أيضا : { إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا } [ الإنسان : 5 ] وقال أيضا : { إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } [ المطففين : 22 ، 26 ] وقال : { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } [ البقرة : 177 ] فالله تعالى لما فصل في سائر الآيات كيفية ثواب الأبرار اكتفي ههنا بأن ذكر أن من أنفق ما أحب نال البر ، وفيه لطيفة أخرى .

وهي أنه تعالى قال : { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من ءامن بالله واليوم الأخر والملائكة } إلى آخر الآية ، فذكر في هذه الآية أكثر أعمال الخير ، وسماه البر ثم قال في هذه الآية { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } والمعنى أنكم وإن أتيتم بكل تلك الخيرات المذكورة في تلك الآية فإنكم لا تفوزون بفضيلة البر حتى تنفقوا مما تحبون ، وهذا يدل على أن الإنسان إذا أنفق ما يحبه كان ذلك أفضل الطاعات ، وههنا بحث وهو : أن لقائل أن يقول كلمة { حتى } لانتهاء الغاية فقوله { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } يقتضي أن من أنفق مما أحب فقد نال البر ومن نال البر دخل تحت الآيات الدالة على عظم الثواب للأبرار ، فهذا يقتضي أن من أنفق ما أحب وصل إلى الثواب العظيم وإن لم يأت بسائر الطاعات ، وهو باطل ، وجواب هذا الإشكال : أن الإنسان لا يمكنه أن ينفق محبوبه إلا إذا توسل بإنفاق ذلك المحبوب إلى وجدان محبوب أشرف من الأول ، فعلى هذا الإنسان لا يمكنه أن ينفق الدنيا في الدنيا إلا إذا تيقن سعادة الآخرة ، ولا يمكنه أن يعترف بسعادة الآخرة إلا إذا أقر بوجود الصانع العالم القادر ، وأقر بأنه يجب عليه الانقياد لتكاليفه وأوامره ونواهيه ، فإذا تأملت علمت أن الإنسان لا يمكنه إنفاق الدنيا في الدنيا إلا إذا كان مستجمعا لجميع الخصال المحمودة في الدنيا ، ولنرجع إلى التفسير فنقول في الآية مسائل :

المسألة الأولى : كان السلف إذا أحبوا شيئا جعلوه لله ، روي أنه لما نزلت هذه الآية قال أبو طلحة : يا رسول الله لي حائط بالمدينة وهو أحب أموالي إلي أفأتصدق به ؟ فقال عليه السلام : « بخ بخ ذاك مال رابح ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين » فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله ، فقسمها في أقاربه ، ويروى أنه جعلها بين حسان بن ثابت وأبي بن كعب رضي الله عنهما ، وروي أن زيد بن حارثة رضي الله عنه جاء عند نزول هذه الآية بفرس له كان يحبه وجعله في سبيل الله ، فحمل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة ، فوجد زيد في نفسه فقال عليه السلام : « إن الله قد قبلها » واشترى ابن عمر جارية أعجبته فأعتقها فقيل له : لم أعتقتها ولم تصب منها ؟ فقال : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } .

المسألة الثانية : للمفسرين في تفسير البر قولان أحدهما : ما به يصيرون أبرارا حتى يدخلوا في قوله { إن الأبرار لفي نعيم } فيكون المراد بالبر ما يحصل منهم من الأعمال المقبولة والثاني : الثواب والجنة فكأنه قال : لن تنالوا هذه المنزلة إلا بالإنفاق على هذا الوجه .

أما القائلون بالقول الأول ، فمنهم من قال : { البر } هو التقوى واحتج بقوله { ولكن البر من ءامن بالله } إلى قوله { أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون } [ البقرة : 177 ] وقال أبو ذر : إن البر هو الخير ، وهو قريب مما تقدم .

وأما الذين قالوا : البر هو الجنة فمنهم من قال : { لن تنالوا البر } أي لن تنالوا ثواب البر ، ومنهم من قال : المراد بر الله أولياءه وإكرامه إياهم وتفضله عليهم ، وهو من قول الناس : برني فلان بكذا ، وبر فلان لا ينقطع عني ، وقال تعالى : { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين } إلى قول : { أن تبروهم } [ الممتحنة : 8 ] .

المسألة الثالثة : اختلف المفسرون في قوله { مما تحبون } منهم من قال : إنه نفس المال ، قال تعالى : { وإنه لحب الخير لشديد } [ العاديات : 8 ] ومنهم من قال : أن تكون الهبة رفيعة جيدة ، قال تعالى : { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } [ البقرة : 267 ] ومنهم من قال : ما يكون محتاجا إليه قال تعالى : { ويطعمون الطعام على حبه مسكينا } [ الإنسان : 8 ] أحد تفاسير الحب في هذه الآية على حاجتهم إليه ، وقال : { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } [ الحشر : 9 ] وقال عليه السلام : « أفضل الصدقة ما تصدقت به وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر » والأولى أن يقال : كل ذلك معتبر في باب الفضل وكثرة الثواب .

المسألة الرابعة : اختلف المفسرون في أن هذا الإنفاق ، هل هو الزكاة أو غيرها ؟ قال ابن عباس : أراد به الزكاة ، يعني حتى تخرجوا زكاة أموالكم ، وقال الحسن : كل شيء أنفقه المسلم من ماله طلب به وجه الله فإنه من الذين عنى الله سبحانه بقوله { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } حتى التمرة ، والقاضي اختار القول الأول ، واحتج عليه بأن هذا الإنفاق ، وقف الله عليه كون المكلف من الأبرار ، والفوز بالجنة ، بحيث لو لم يوجد هذا الإنفاق ، لم يصر العبد بهذه المنزلة ، وما ذاك إلا الإنفاق الواجب ، وأقول : لو خصصنا الآية بغير الزكاة لكان أولى لأن الآية مخصوصة بإيتاء الأحب ، والزكاة الواجبة ليس فيها إيتاء الأحب ، فإنه لا يجب على المزكي أن يخرج أشرف أمواله وأكرمها ، بل الصحيح أن هذه الآية مخصوصة بإيتاء المال على سبيل الندب .

المسألة الخامسة : نقل الواحدي عن مجاهد والكلبي : أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة ، وهذا في غاية البعد لأن إيجاب الزكاة كيف ينافي الترغيب في بذل المحبوب لوجه الله سبحانه وتعالى .

المسألة السادسة : قال بعضهم كلمة { من } في قوله { مما تحبون } للتبعيض ، وقرأ عبد الله { حتى تنفقوا بعض ما تحبون } وفيه إشارة إلى أن إنفاق الكل لا يجوز ثم قال : { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما } [ الفرقان : 67 ] وقال آخرون : إنها للتبيين .

وأما قوله : { وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم }

ففيه سؤال :

وهو أن يقال : قيل فإن الله به عليم على جهة جواب الشرط مع أن الله تعالى يعلمه على كل حال .

والجواب : من وجهين الأول : أن فيه معنى الجزاء تقديره : وما تنفقوا من شيء فإن الله به يجازيكم قل أم كثر ، لأنه عليم به لا يخفي عليه شيء منه ، فجعل كونه عالما بذلك الإنفاق كناية عن إعطاء الثواب ، والتعريض في مثل هذا الموضع يكون أبلغ من التصريح والثاني : أنه تعالى يعلم الوجه الذي لأجله يفعلونه ويعلم أن الداعي إليه أهو الإخلاص أم الرياء ويعلم أنكم تنفقون الأحب الأجود ، أم الأخس الأرذل .

واعلم أن نظير هذه الآية قوله { وما تفعلوا من خير يعلمه الله } وقوله { وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه } [ البقرة : 270 ] قال صاحب «الكشاف » { من } في قوله { من شيء } لتبيين ما ينفقونه أي من شيء كان طيبا تحبونه أو خبيثا تكرهونه فإن الله به عليم يجازيكم على قدره .