مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{أَفَعَيِينَا بِٱلۡخَلۡقِ ٱلۡأَوَّلِۚ بَلۡ هُمۡ فِي لَبۡسٖ مِّنۡ خَلۡقٖ جَدِيدٖ} (15)

قوله تعالى : { أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد } .

وفيه وجهان ( أحدهما ) أنه استدلال بدلائل الأنفس ، لأنا ذكرنا مرارا أن الدلائل آفاقية ونفسية كما قال تعالى : { سنريهم ءاياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } ولما قرن الله تعالى دلائل الآفاق عطف بعضها على بعض بحرف الواو فقال : { والأرض مددناها } وفي غير ذلك ذكر الدليل النفسي ، وعلى هذا فيه لطائف لفظية ومعنوية .

أما اللفظية فهي أنه تعالى في الدلائل الآفاقية عطف بعضها على بعض بحرف الواو فقال : { والأرض مددناها } وقال : { ونزلنا من السماء ماء مباركا } ثم في الدليل النفسي ذكر حرف الاستفهام والفاء بعدها إشارة إلى أن تلك الدلائل من جنس ، وهذا من جنس ، فلم يجعل هذا تبعا لذلك ، ومثل هذا مراعى في أواخر يس ، حيث قال تعالى : { أولم ير الإنسان أنا خلقناه } ثم لم يعطف الدليل الآفاقي هاهنا ؟ نقول ، والله أعلم هاهنا وجد منهم الاستبعاد بقول { ذلك رجع بعيد } فاستدل بالأكبر وهو خلق السموات ، ثم نزل كأنه قال لا حاجة إلى ذلك الاستدلال بل في أنفسهم دليل جواز ذلك ، وفي سورة يس لم يذكر استبعادهم فبدأ بالأدنى وارتقى إلى الأعلى .

والوجه الثاني : يحتمل أن يكون المراد بالخلق الأول هو خلق السموات ، لأنه هو الخلق الأول وكأنه تعالى قال : { أفلم ينظروا إلى السماء } ثم قال : { أفعيينا } بهذا الخلق ويدل على هذا قوله تعالى : { أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن } ويؤيد هذا الوجه هو أن الله تعالى قال بعد هذه الآية { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه } فهو كالاستدلال بخلق الإنسان وهو معطوف بحرف الواو على ما تقدم من الخلق وهو بناء السماء ومد الأرض وتنزيل الماء وإنبات الجنات ، وفي تعريف الخلق الأول وتنكير خلق جديد وجهان ( أحدهما ) ما عليه الأمران لأن الأول عرفه كل واحد وعلم لنفسه ، والخلق الجديد لم يعلم لنفسه ولم يعرفه كل أحد ولأن الكلام عنهم وهم لم يكونوا عالمين بالخلق الجديد ( والوجه الثاني ) أن ذلك لبيان إنكارهم للخلق الثاني من كل وجه ، كأنهم قالوا أيكون لنا خلق ما على وجه الإنكار له بالكلية ؟ وقوله تعالى : { بل هم في لبس } تقديره ما عيينا بل هم في شك من خلق جديد ، يعني لا مانع من جهة الفاعل ، فيكون من جانب المفعول وهو الخلق الجديد ، لأنهم كانوا يقولون ذلك محال وامتناع وقوع المحال بالفاعل لا يوجب عجزا فيه ، ويقال للمشكوك فيه ملتبس كما يقال لليقين إنه ظاهر وواضح ، ثم إن اللبس يسند إلى الأمر كم قلنا : إنه يقال إن هذا أمر ظاهر ، وهذا أمر ملتبس وهاهنا أسند الأمر إليهم حيث قال : { هم في لبس } وذلك لأن الشيء يكون وراء حجاب والناظر إليه بصير فيختفي الأمر من جانب الرائي فقال هاهنا { بل هم في لبس } ومن في قوله { من خلق جديد } يفيد فائدة وهي ابتداء الغاية كأن اللبس كان حاصلا لهم من ذلك .