مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡمَجِيدِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة ق

{ ق والقرءان المجيد } وقبل التفسير نقول ما يتعلق بالسورة وهي أمور :

الأول : أن هذه السورة تقرأ في صلاة العيد ، لقوله تعالى فيها { ذلك يوم الخروج } وقوله تعالى : { كذلك الخروج } وقوله تعالى : { ذلك حشر علينا يسير } فإن العيد يوم الزينة ، فينبغي أن لا ينسى الإنسان خروجه إلى عرصات الحساب ، ولا يكون في ذلك اليوم فرحا فخورا ، ولا يرتكب فسقا ولا فجورا ، ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتذكير بقوله في آخر السورة { فذكر بالقرءان من يخاف وعيد } ذكرهم بما يناسب حالهم في يومهم بقوله { ق والقرءان } .

الثاني : هذه السورة ، وسورة { ص } تشتركان في افتتاح أولهما بالحرف المعجم والقسم بالقرآن وقوله { بل } والتعجب ، ويشتركان في شيء آخر ، وهو أن أول السورتين وآخرهما متناسبان ، وذلك لأن في { ص } قال في أولها { ص والقرءان ذي الذكر } وقال في آخرها { إن هو إلا ذكر للعالمين } وفي { ق } قال في أولها { ق والقرءان } وقال في آخرها { فذكر بالقرءان من يخاف وعيد } فافتتح بما اختتم به .

والثالث : وهو أن في تلك السورة صرف العناية إلى تقرير الأصل الأول وهو التوحيد ، بقوله تعالى : { أجعل الآلهة إلها واحدا } وقوله تعالى : { أن امشوا واصبروا على آلهتكم } وفي هذه السورة إلى تقرير الأصل الآخر وهو الحشر ، بقوله تعالى : { أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد } ولما كان افتتاح السورة في { ص } في تقرير المبدأ ، قال في آخرها { إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين } وختمه بحكاية بدء ( خلق ) آدم ، لأنه دليل الوحدانية . ولما كان افتتاح هذه لبيان الحشر ، قال في آخرها { يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير } .

وأما التفسير ، ففيه مسائل :

المسألة الأولى : قيل { ق } اسم جبل محيط بالعالم ، وقيل معناه حكمة ، هي قولنا : قضى الأمر . وفي { ص } : صدق الله ، وقد ذكرنا أن الحروف تنبيهات قدمت على القرآن ، ليبقى السامع مقبلا على استماع ما يرد عليه ، فلا يفوته شيء من الكلام الرائق والمعنى الفائق .

وذكرنا أيضا أن العبادة منها قلبية ، ومنها لسانية ، ومنها خارجية ظاهرة ، ووجد في الجارحية ما عقل معناه ، ووجد منها ما لم يعقل معناه ، كأعمال الحج من الرمي والسعي وغيرهما ، ووجد في القلبية ما عقل بدليل ، كعلم التوحيد ، وإمكان الحشر ، وصفات الله تعالى ، وصدق الرسل ، ووجد فيها ما يبعدها عن كونها معقولة المعنى أمور لا يمكن التصديق ، والجزم بما لولا السمع كالصراط الممدود الأحد من السيف الأرق من الشعر ، والميزان الذي يوزن به الأعمال ، فكذلك كان ينبغي أن تكون الأذكار التي هي العبادة اللسانية منها ما يعقل معناه كجميع القرآن إلا قليلا منه ، ومنها ما لا يعقل ولا يفهم كحرف التهجي لكون التلفظ به محض الانقياد للأمر ، لا لما يكون في الكلام من طيب الحكاية والقصد إلى غرض ، كقولنا ربنا اغفر لنا وارحمنا بل يكون النطق به تعبدا محضا ، ويؤيد هذا وجه آخر ، وهو أن هذه الحروف مقسم بها ، وذلك لأن الله تعالى لما أقسم بالتين والزيتون كان تشريفا لهما ، فإذا أقسم بالحروف التي هي أصل الكلام الشريف الذي هو دليل المعرفة ، وآلة التعريف كان أولى ، وإذا عرفت هذا فنقول على هذا فيه مباحث :

الأول : القسم من الله وقع بأمر واحد ، كما في قوله تعالى : { والعصر } وقوله تعالى : { والنجم } وبحرف واحد ، كما في قوله تعالى : { ص } و{ ن } ووقع بأمرين ، كما في قوله تعالى : { والضحى والليل إذا سجى } وفي قوله تعالى : { والسماء والطارق } وبحرفين ، كما في قوله تعالى : { طه } و{ طس } و{ يس } و{ حم } وبثلاثة أمور ، كما في قوله تعالى : { والصافات . . . فالزاجرات . . . فالتاليات } وبثلاثة أحرف ، كما في { الم } وفي { طسم والر } وبأربعة أمور ، كما في { والذريات } وفي { والسماء ذات البروج } وفي { والتين } وبأربعة أحرف ، كما في { المص المر } وبخمسة أمور ، كما في { والطور } وفي { والمرسلات } وفي { والنازعات } وفي { والفجر } وبخمسة أحرف ، كما في { كهيعص وحمعسق } ولم يقسم بأكثر من خمسة أشياء إلا في سورة واحدة وهي { والشمس وضحاها } ولم يقسم بأكثر من خمسة أصول ، لأنه يجمع كلمة الاستثقال ، ولما استثقل حين ركب لمعنى ، كان استثقالها حين ركب من غير إحاطة العلم بالمعنى أو لا لمعنى كان أشد .

البحث الثاني : عند القسم بالأشياء المعهودة ، ذكر حرف القسم وهي الواو ، فقال : { والطور } { والنجم } { والشمس } وعند القسم بالحروف لم يذكر حرف القسم ، فلم يقل و{ ق وحم } لأن القسم لما كان بنفس الحروف كان الحرف مقسما به ، فلم يورده في موضع كونه آلة القسم تسوية بين الحروف .

البحث الثالث : أقسم الله بالأشياء : كالتين والطور ، ولم يقسم بأصولها ، وهي الجواهر الفردة والماء والتراب . وأقسم بالحروف من غير تركيب ، لأن الأشياء عنده يركبها على أحسن حالها ، وأما الحروف إن ركبت بمعنى ، يقع الحلف بمعناه لا باللفظ ، كقولنا ( والسماء والأرض ) وإن ركبت لا بمعنى ، كان المفرد أشرف ، فأقسم بمفردات الحروف .

البحث الرابع : أقسم بالحروف في أول ثمانية وعشرين سورة ، وبالأشياء التي عددها عدد الحروف ، وهي غير { والشمس } في أربع عشرة سورة ، لأن القسم بالأمور غير الحروف وقع في أوائل السور وفي أثنائها ، كقوله تعالى : { كلا والقمر * والليل إذ أدبر } وقوله تعالى : { والليل وما وسق } وقوله { والليل إذا عسعس } والقسم بالحروف لم يوجد ولم يحسن إلا في أوائل السور ، لأن ذكر ما لا يفهم معناه في أثناء الكلام المنظوم المفهوم يخل بالفهم ، ولما كان القسم بالأشياء له موضعان والقسم بالحروف له موضع واحد جعل القسم بالأشياء في أوائل السور على نصف القسم بالحروف في أوائلها .

البحث الخامس : القسم بالحروف وقع في النصفين جميعا بل في كل سبع وبالأشياء المعدودة لم يوجد إلا في النصف الأخير بل لم يوجد إلا في السبع الأخير غير والصافات ، وذلك لأنا بينا أن القسم بالحروف لم ينفك عن ذكر القرآن أو الكتاب أو التنزيل بعده إلا نادرا فقال تعالى : { يس * والقرءان الحكيم } { حم * تنزيل الكتاب } { الم * ذلك الكتاب } ولما كان جميع القرآن معجزة مؤداة بالحروف وجد ذلك عاما في جميع المواضع ولا كذلك القسم بالأشياء المعدودة ، وقد ذكرنا شيئا من ذلك في سورة العنكبوت ، ولنذكر ما يختص بقاف قيل إنه اسم جبل محيط بالأرض عليه أطراف السماء وهو ضعيف لوجوه : ( أحدها ) أن القراءة الكثيرة الوقف ، ولو كان اسم جبل لما جاز الوقف في الإدراج ، لأن من قال ذلك قال بأن الله تعالى أقسم به ( وثانيها ) أنه لو كان كذلك لذكر بحرف القسم كما في قوله تعالى : { والطور } وذلك لأن حرف القسم يحذف حيث يكون المقسم به مستحقا لأن يقسم به ، كقولنا الله لأفعلن كذا ، واستحقاقه لهذا غني عن الدلالة عليه باللفظ ولا يحسن أن يقال زيد لأفعلن ( ثالثها ) هو أنه لو كان كما ذكر لكان يكتب قاف مع الألف والفاء كما يكتب { عين جارية } ويكتب { أليس الله بكاف عبده } وفي جميع المصاحف يكتب حرف { ق } ، ( رابعها ) هو أن الظاهر أن الأمر فيه كالأمر في { ص ، ن ، حم } وهي حروف لا كلمات وكذلك في { ق } فإن قيل هو منقول عن ابن عباس ، نقول المنقول عنه أن قاف اسم جبل ، وأما أن المراد في هذا الموضع به ذلك فلا ، وقيل إن معناه قضى الأمر ، وفي { ص } صدق الله ، وقيل هو اسم الفاعل من قفا يقفو و ص من صاد من المصاداة ، وهي المعارضة ، معناه هذا قاف جميع الأشياء بالكشف ، ومعناه حينئذ هو قوله تعالى : { ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } إذا قلنا إن الكتاب هناك القرآن . هذا ما قيل في { ق } وأما القراءة فيه فكثيرة وحصرها بيان معناها ، فنقول إن قلنا هي مبنية على ما بينا فحقها الوقف إذ لا عامل فيها فيشبه بناء الأصوات ويجوز الكسر حذرا من التقاء الساكنين ، ويجوز الفتح اختيارا للأخف ، فإن قيل كيف جاز اختيار الفتح هاهنا ، ولم يجز عند التقاء الساكنين إذا كان أحدهما آخر كلمة والآخر أول أخرى كما في قوله تعالى : { لم يكن الذين كفروا } { ولا تطرد الذين } ؟ نقول لأن هناك إنما وجب التحريك وعين الكسر في الفعل للشبهة تحرك الإعراب ، لأن الفعل محل يرد عليه الرفع والنصب ولا يوجد فيه الجر فاختيرت الكسرة التي لا يخفى على أحد أنها ليست بجر ، لأن الفعل لا يجوز فيه الجر ولو فتح لاشتبه بالنصب ، وأما في أواخر الأسماء فلا اشتباه ، لأن الأسماء محل ترد عليه الحركات الثلاث فلم يكن يمكن الاحتراز فاختاروا الأخف ، وأما إن قلنا إنها حرف مقسم به فحقها الجر ويجوز النصب بجعله مفعولا باقسم على وجه الاتصال ، وتقدير الباء كأن لم يوجد ، وإن قلنا هي اسم السورة ، فإن قلنا مقسم بها مع ذلك فحقها الفتح لأنها لا تنصرف حينئذ ففتح في موضع الجر كما تقول وإبراهيم وأحمد في القسم بهما ، وإن قلنا إنه ليس مقسما بها وقلنا اسم السورة ، فحقها الرفع إن جعلناها خبرا تقديره : هذه ( ق ) ، وإن قلنا هو من قفا يقفو فحقه التنوين كقولنا هذا داع وراع ، وإن قلنا اسم جبل فالجر والتنوين وإن كان قسما ، ولنعد إلى التفسير فنقول الوصف قد يكون للتمييز وهو الأكثر كقولنا الكلام القديم ليتميز عن الحادث والرجل الكريم ليمتاز عن اللئيم ، وقد يكون لمجرد المدح كقولنا الله الكريم إذ ليس في الوجود إله آخر حتى نميزه عنه بالكريم ، وفي هذا الموضع يحتمل الوجهين ، والظاهر أنه لمجرد المدح ، وأما التمييز فبأن نجعل القرآن اسما للمقروء ، ويدل عليه قوله تعالى : { ولو أن قرآنا سيرت به الجبال } والمجيد العظيم ، وقيل المجيد هو كثير الكرم وعلى الوجهين القرآن مجيد ، أما على قولنا المجيد هو العظيم ، فلأن القرآن عظيم الفائدة ، ولأنه ذكر الله العظيم ، وذكر العظيم عظيم ، ولأنه لم يقدر عليه أحد من الخلق ، وهو آية العظمة يقال ملك عظيم إذا لم يكن يغلب ويدل عليه قوله تعالى : { ولقد ءاتيناك سبعا من المثاني والقرءان العظيم } أي الذي لا يقدر على مثله أحد ليكون معجزة دالة على نبوتك وقوله تعالى : { بل هو قرءان مجيد * في لوح محفوظ } أي محفوظ من أن يطلع عليه أحد إلا باطلاعه تعالى فلا يبدل ولا يغير و { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } فهو غير مقدور عليه فهو عظيم ، وأما على قولنا المجيد هو كثير الكرم فالقرآن كريم كل من طلب منه مقصوده وجده ، وإنه مغن كل من لاذ به ، وإغناء المحتاج غاية الكرم ويدل عليه هو أن المجيد مقرون بالحميد في قولنا إنك حميد مجيد ، فالحميد هو المشكور والشكر على الإنعام والمنعم كريم فالمجيد هو الكريم البالغ في الكرم ، وفيه مباحث :

الأول : القرآن مقسم به فالمقسم عليه ماذا ؟ نقول فيه وجوه وضبطها بأن نقول ، ذلك إما أن يفهم بقرينة حالية أو قرينة مقالية ، والمقالية إما أن تكون متقدمة على المقسم به أو متأخرة ، فإن قلنا بأنه مفهوم من قرينة مقالية متقدمة فلا متقدم هناك لفظا إلا { ق } فيكون التقدير : هذا { ق والقرءان المجيد } أو { ق } أنزلها الله تعالى : { والقرآن } كما يقول هذا حاتم والله أي هو المشهور بالسخاء ويقول الهلال رأيته والله ، وإن قلنا بأنه مفهوم من قرينة مقالية متأخرة ، فنقول ذلك أمران : ( أحدهما ) المنذر ( والثاني ) الرجع ، فيكون التقدير : والقرآن المجيد إنك المنذر ، أو : والقرآن المجيد إن الرجع لكائن ، لأن الأمرين ورد القسم عليهما ظاهرا ، أما ( الأول ) فيدل عليه قوله تعالى : { يس * والقرءان الحكيم * إنك لمن المرسلين } إلى أن قال : { لتنذر قوما ما أنذر ءاباؤهم } . وأما ( الثاني ) فدل عليه قوله تعالى : { والطور * وكتاب مسطور } إلى أن قال : { إن عذاب ربك لواقع } وهذا الوجه يظهر عليه غاية الظهور على قول من قال { ق } اسم جبل فإن القسم يكون بالجبل والقرآن ، وهناك القسم بالطور والكتاب المسطور وهو الجبل والقرآن ، فإن قيل أي الوجهين منهما أظهر عندك ؟ قلت ( الأول ) لأن المنذر أقرب من الرجع ، ولأن الحروف رأيناها مع القرآن والمقسم كونه مرسلا ومنذرا ، وما رأينا الحروف ذكرت وبعدها الحشر ، واعتبر ذلك في سور منها قوله تعالى : { الم * تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر } ولأن القرآن معجزة دالة على كون محمد رسول الله ، فالقسم به عليه يكون إشارة إلى الدليل على طريقة القسم ، وليس هو بنفسه دليلا على الحشر ، بل فيه أمارات مفيدة للجزم بالحشر بعد معرفة صدق الرسول ، وأما إن قلنا هو مفهوم بقرينة حالية ، فهو كون محمد صلى الله عليه وسلم على الحق ولكلامه صفة الصدق ، فإن الكفار كانوا ينكرون ذلك والمختار ما ذكرناه .