قوله تعالى : { وفاكهة مما يتخيرون ، ولحم طير مما يشتهون } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما وجه الجر ، والفاكهة لا يطوف بها الولدان والعطف يقتضي ذلك ؟ نقول : الجواب عنه من وجهين ( أحدهما ) أن الفاكهة واللحم في الدنيا يطلبان في حالتين ( أحدهما ) حالة الشرب والأخرى حال عدمه ، فالفاكهة من رءوس الأشجار تؤخذ ، كما قال تعالى : { قطوفها دانية } وقال : { وجنى الجنتين دان } إلى غير ذلك ، وأما حالة الشراب فجاز أن يطوف بها الولدان ، فيناولوهم الفواكه الغريبة واللحوم العجيبة لا للأكل بل للإكرام ، كما يضع المكرم للضيف أنواع الفواكه بيده عنده وإن كان كل واحد منهما مشاركا للآخر في القرب منها ( والوجه الثاني ) أن يكون عطفا في المعنى على جنات النعيم ، أي هم المقربون في جنات وفاكهة ، ولحم وحور ، أي في هذه النعم يتقلبون ، والمشهور أنه عطف في اللفظ للمجاورة لا في المعنى ، وكيف لا يجوز هذا ، وقد جاز تقلد سيفا ورمحا .
المسألة الثانية : هل في تخصيص التخيير بالفاكهة والاشتهاء باللحم بلاغة ؟ قلت : وكيف لا وفي كل حرف من حروف القرآن بلاغة وفصاحة ، وإن كان لا يحيط بها ذهني الكليل ، ولا يصل إليها علمي القليل ، والذي يظهر لي فيه أن اللحم والفاكهة إذا حضرا عند الجائع تميل نفسه إلى اللحم ، وإذا حضرا عند الشبعان تميل إلى الفاكهة ، والجائع مشته والشبعان غير مشته ، وإنما هو مختار إن أراد أكل ، وإن لم يرد لا يأكل ، ولا يقال في الجائع إن أراد أكل لأن أن لا تدخل إلا على المشكوك ، إذا علم هذا ثبت أن في الدنيا اللحم عند المشتهي مختار والفاكهة عند غير المشتهى مختارة وحكاية الجنة على ما يفهم في الدنيا فخص اللحم بالاشتهاء والفاكهة بالاختيار ، والتحقيق فيه من حيث اللفظ أن الاختيار هو أخذ الخير من أمرين والأمران اللذان يقع فيهما الاختيار في الظاهر لا يكون للمختار أو لا ميل إلى أحدهما ، ثم يتفكر ويتروى ، ويأخذ ما يغلبه نظره على الآخر فالتفكه هو ما يكون عند عدم الحاجة ، وأما إن اشتهى واحد فاكهة بعينها فاستحضرها وأكلها فهو ليس بمتفكه وإنما هو دافع حاجة ، وأما فواكه الجنة تكون أولا عند أصحاب الجنة من غير سبق ميل منهم إليها ثم يتفكهون بها على حسب اختيارهم ، وأما اللحم فتميل أنفسهم إليه أدنى ميل فيحضر عندهم ، وميل النفس إلى المأكول شهوة ، ويدل على هذا قوله تعالى : { قطوفها دانية } وقوله : { وجنى الجنتين دان } وقوله تعالى : { وفاكهة كثيرة ، لا مقطوعة ولا ممنوعة } فهو دليل على أنها دائمة الحضور ، وأما اللحم فالمروي أن الطائر يطير فتميل نفس المؤمن إلى لحمه فينزل مشويا ومقليا على حسب ما يشتهيه ، فالحاصل أن الفاكهة تحضر عندهم فيتخير المؤمن بعد الحضور واللحم يطلبه المؤمن وتميل نفسه إليه أدنى ميل ، وذلك لأن الفاكهة تلذ الأعين بحضورها ، واللحم لا تلذ الأعين بحضوره ، ثم إن في اللفظ لطيفة ، وهي أنه تعالى قال : { مما يتخيرون } ولم يقل : مما يختارون مع قرب أحدهما إلى الآخر في المعنى ، وهو أن التخير من باب التكلف فكأنهم يأخذون ما يكون في نهاية الكمال ، وهذا لا يوجد إلا ممن لا يكون له حاجة ولا اضطرار .
المسألة الثالثة : ما الحكمة في تقديم الفاكهة على اللحم ؟ نقول : الجواب عنه من وجوه ( أحدها ) العادة في الدنيا التقديم للفواكه في الأكل والجنة وضعت بما علم في الدنيا من الأوصاف وعلى ما علم فيها ، ولاسيما عادة أهل الشرب وكأن المقصود بيان حال شرب أهل الجنة ( وثانيها ) الحكمة في الدنيا تقتضي أكل الفاكهة أولا لأنها ألطف وأسرع انحدارا وأقل حاجة إلى المكث الطويل في المعدة للهضم ، ولأن الفاكهة تحرك الشهوة للأكل واللحم يدفعها ( وثالثها ) يخرج مما ذكرنا جوابا خلا عن لفظ التخيير والاشتهاء هو أنه تعالى لما بين أن الفاكهة دائمة الحضور والوجود ، واللحم يشتهي ويحضر عند الاشتهاء دل هذا على عدم الجوع لأن الجائع حاجته إلى اللحم أكثر من اختياره اللحم فقال : { وفاكهة } لأن الحال في الجنة يشبه حال الشبعان في الدنيا فيميل إلى الفاكهة أكثر فقدمها ، وهذا الوجه أصح لأن من الفواكه مالا يؤكل إلا بعد الطعام ، فلا يصح الأول جوابا في الكل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.