مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى ٱلۡحِنثِ ٱلۡعَظِيمِ} (46)

{ وكانوا يصرون } لأن صدور الكفران ممن عليه غاية الإنعام أقبح القبائح فقال : إنهم كانوا مترفين ، ولم يشكروا نعم الله بل أصروا على الذنب وعلى هذا فنقول : النعم التي تقتضي شكر الله وعبادته في كل أحد كثيرة فإن الخلق والرزق وما يحتاج إليه وتتوقف مصالحه عليه حاصل للكل ، غاية ما في الباب أن حال الناس في الإتراف متقارب ، فيقال في حقل البعض بالنسبة إلى بعض : إنه في ضر ، ولو حمل نفسه على القناعة لكان أغنى الأغنياء وكيف لا والإنسان إذا نظر إلى حالة يجدها مفتقرة إلى مسكن يأوي إليه ولباس الحر والبرد وما يسد جوعه من المأكول والمشروب ، وغير هذا من الفضلات التي يحمل عليها شح النفس ، ثم إن أحدا لا يغلب عن تحصيل مسكن باشتراء أو اكتراء ، فإن لم يكن فليس هو أعجز من الحشرات ، لا تفقد مدخلا أو مغارة ، وأما اللباس فلو اقتنع بما يدفع الضرورة كان يكفيه في عمره لباس واحد ، كلما تمزق منه موضع يرقعه من أي شيء كان ، بقي أمر المأكول والمشروب ، فإذا نظر الناظر يجد كل أحد في جميع الأحوال غير مغلوب عن كسرة خبز وشربة ماء ، غير أن طلب الغنى يورث الفقر فيريد الإنسان بيتا مزخرفا ولباسا فاخرا ومأكولا طيبا ، وغير ذلك من أنواع الدواب والثياب ، فيفتقر إلى أن يحمل المشاق ، وطلب الغنى يورث فقره ، وارتياد الارتفاع يحط قدره ، وبالجملة شهوة بطنه وفرجه تكسر ظهره على أننا نقول في قوله تعالى : { كانوا قبل ذلك مترفين } لا شك أن أهل القبور لما فقدوا الأيدي الباطشة ، والأعين الباصرة ، وبان لهم الحقائق ، علموا ( أنهم كانوا قبل ذلك مترفين ) بالنسبة إلى تلك الحالة .

المسألة الثالثة : ما الإصرار على الحنث العظيم ؟ نقول : الشرك ، كما قال تعالى : { إن الشرك لظلم عظيم } وفيها لطيفة وهي أنه أشار في الآيات الثلاث إلى الأصول الثلاثة فقوله تعالى : { إنهم كانوا قبل ذلك مترفين } من حيث الاستعمال يدل على ذمهم بإنكار الرسل ، إذ المترف متكبر بسبب الغنى فينكر الرسالة ، والمترفون كانوا يقولون : { أبشر منا واحدا نتبعه } وقوله : { يصرون على الحنث العظيم } إشارة إلى الشرك ومخالفة التوحيد .