مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{لَا يَسۡمَعُونَ فِيهَا لَغۡوٗا وَلَا تَأۡثِيمًا} (25)

قوله تعالى : { لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما ، إلا قيلا سلاما سلاما } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : ما الحكمة في تأخير ذكره عن الجزاء مع أنه من النعم العظيمة ؟ نقول فيه لطائف ( الأولى ) أن هذا من أتم النعم ، فجعلها من باب الزيادة التي منها الرؤية عند البعض ولا مقابل لها من الأعمال ، وإنما قلنا : إنها من أتم النعم ، لأنها نعمة سماع كلام الله تعالى على ما سنبين أن المراد من قوله : { سلاما } هو ما قال في سورة يس : { سلام قولا من رب رحيم } فلم يذكرها فيما جعله جزاء ، وهذا على قولنا : { أولئك المقربون } ليس فيه دلالة على الرؤية ( الثانية ) أنه تعالى بدأ بأتم النعم وهي نعمة الرؤيا ، وهي الرؤية بالنظر كما مر وختم بمثلها ، وهي نعمة المخاطبة ( الثالثة ) هي أنه تعالى لما ذكر النعم الفعلية وقابلها بأعمالهم حيث قال : { جزاء بما كانوا يعملون } ذكر النعم القولية في مقابلة أذكارهم الحسنة ولم يذكروا اللذات العقلية التي في مقابلة أعمال قلوبهم من إخلاصهم واعتقادهم ، لأن العمل القلبي لم ير ولم يسمع ، فما يعطيهم الله تعالى من النعمة تكون نعمة لم ترها عين ولا سمعتها أذن ، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم فيها : « مالا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر » وقوله عليه السلام : « ولا خطر » إشارة إلى الزيادة ، والذي يدل على النعمة القولية في مقابلة قولهم الطيب قوله تعالى : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا } إلى قوله : { نزلا من غفور رحيم } .

المسألة الثانية : قوله تعالى : { لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما } نفي للمكروه لما أن اللغو كلام غير معتبر ، لأنه عند المعتبرين من الرجال مكروه ، ونفي المكروه لا يعد من النعم العظيمة التي مر ذكرها ، كيف وقد ذكرت أن تأخير هذه النعمة لكونها أتم ، ولو قال : إن فلانا في بلدة كذا محترم مكرم لا يضرب ولا يشتم فهو غير مكرم وهو مذموم والواغل مذموم وهو الذي يدخل على قوم يشربون ويأكلون فيأكل ويشرب معهم من غير دعاء ولا إذن فكأنه بالنسبة إليهم في عدم الاعتبار كلام غير معتبر وهو اللغو ، وكذلك ما يتصرف منه مثل الولوغ لا يقال إلا إذا كان الوالغ كلبا أو ما يشبهه من السباع ، وأما التأثيم فهو النسبة إلى الإثم ومعناه لا يذكر إلا باطلا ولا ينسبه أحد إلا إلى الباطل ، وأما التقديم فلأن اللغو أعم من التأثيم أي يجعله آثما كما تقول : إنه فاسق أو سارق ونحو ذلك وبالجملة فالمتكلم ينقسم إلى أن يلغو وإلى أن لا يلغو والذي لا يلغو يقصد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فيأخذ الناس بأقوالهم وهو لا يؤخذ عليه شيء ، فقال تعالى : لا يلغو أحد ولا يصدر منه لغو ولا ما يشبه اللغو فيقول له : الصادق لا يلغو ولا يأثم ولا شك في أن الباطل أقبح ما يشبهه فقال : لا يأثم أحد .

المسألة الثالثة : قال تعالى في سورة النبأ : { لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا } فهل بينهما فرق ؟ قلنا : نعم الكذاب كثير التكذيب ومعناه هناك أنهم لا يسمعون كذبا ولا أحدا يقول لآخر : كذبت وفائدته أنهم لا يعرفون كذبا من معين من الناس ولا من واحد منهم غير معين لتفاوت حالهم وحال الدنيا فإنا نعلم أن بعض الناس بأعيانهم كذابون فإن لم نعرف ذلك نقطع بأن في الناس كذابا لأن أحدهم يقول لصاحبه : كذبت فإن صدق فصاحبه كذاب ، وإن لم يصدق فهو كاذب فيعلم أن في الدنيا كذابا بعينه أو بغير عينه ولا كذلك في الآخرة فلا كذب فيها ، وقال هاهنا : { ولا تأثيما } وهو أبلغ من التكذيب فإن من يقول في حق من لا يعرفه : إنه زان أو شارب الخمر مثلا فإنه يأثم وقد يكون صادقا ، فالذي ليس عن علم إثم فلا يقول أحد لأحد : قلت مالا علم لك به فالكلام هاهنا أبلغ لأنه قصر السورة على بيان أحوال الأقسام لأن المذكورين هنا هم السابقون وفي سورة النبأ هم المتقون ، وقد بينا أن السابق فوق المتقي .