مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَحۡمِ طَيۡرٖ مِّمَّا يَشۡتَهُونَ} (21)

قوله تعالى : { وفاكهة مما يتخيرون ، ولحم طير مما يشتهون } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : ما وجه الجر ، والفاكهة لا يطوف بها الولدان والعطف يقتضي ذلك ؟ نقول : الجواب عنه من وجهين ( أحدهما ) أن الفاكهة واللحم في الدنيا يطلبان في حالتين ( أحدهما ) حالة الشرب والأخرى حال عدمه ، فالفاكهة من رءوس الأشجار تؤخذ ، كما قال تعالى : { قطوفها دانية } وقال : { وجنى الجنتين دان } إلى غير ذلك ، وأما حالة الشراب فجاز أن يطوف بها الولدان ، فيناولوهم الفواكه الغريبة واللحوم العجيبة لا للأكل بل للإكرام ، كما يضع المكرم للضيف أنواع الفواكه بيده عنده وإن كان كل واحد منهما مشاركا للآخر في القرب منها ( والوجه الثاني ) أن يكون عطفا في المعنى على جنات النعيم ، أي هم المقربون في جنات وفاكهة ، ولحم وحور ، أي في هذه النعم يتقلبون ، والمشهور أنه عطف في اللفظ للمجاورة لا في المعنى ، وكيف لا يجوز هذا ، وقد جاز تقلد سيفا ورمحا .

المسألة الثانية : هل في تخصيص التخيير بالفاكهة والاشتهاء باللحم بلاغة ؟ قلت : وكيف لا وفي كل حرف من حروف القرآن بلاغة وفصاحة ، وإن كان لا يحيط بها ذهني الكليل ، ولا يصل إليها علمي القليل ، والذي يظهر لي فيه أن اللحم والفاكهة إذا حضرا عند الجائع تميل نفسه إلى اللحم ، وإذا حضرا عند الشبعان تميل إلى الفاكهة ، والجائع مشته والشبعان غير مشته ، وإنما هو مختار إن أراد أكل ، وإن لم يرد لا يأكل ، ولا يقال في الجائع إن أراد أكل لأن أن لا تدخل إلا على المشكوك ، إذا علم هذا ثبت أن في الدنيا اللحم عند المشتهي مختار والفاكهة عند غير المشتهى مختارة وحكاية الجنة على ما يفهم في الدنيا فخص اللحم بالاشتهاء والفاكهة بالاختيار ، والتحقيق فيه من حيث اللفظ أن الاختيار هو أخذ الخير من أمرين والأمران اللذان يقع فيهما الاختيار في الظاهر لا يكون للمختار أو لا ميل إلى أحدهما ، ثم يتفكر ويتروى ، ويأخذ ما يغلبه نظره على الآخر فالتفكه هو ما يكون عند عدم الحاجة ، وأما إن اشتهى واحد فاكهة بعينها فاستحضرها وأكلها فهو ليس بمتفكه وإنما هو دافع حاجة ، وأما فواكه الجنة تكون أولا عند أصحاب الجنة من غير سبق ميل منهم إليها ثم يتفكهون بها على حسب اختيارهم ، وأما اللحم فتميل أنفسهم إليه أدنى ميل فيحضر عندهم ، وميل النفس إلى المأكول شهوة ، ويدل على هذا قوله تعالى : { قطوفها دانية } وقوله : { وجنى الجنتين دان } وقوله تعالى : { وفاكهة كثيرة ، لا مقطوعة ولا ممنوعة } فهو دليل على أنها دائمة الحضور ، وأما اللحم فالمروي أن الطائر يطير فتميل نفس المؤمن إلى لحمه فينزل مشويا ومقليا على حسب ما يشتهيه ، فالحاصل أن الفاكهة تحضر عندهم فيتخير المؤمن بعد الحضور واللحم يطلبه المؤمن وتميل نفسه إليه أدنى ميل ، وذلك لأن الفاكهة تلذ الأعين بحضورها ، واللحم لا تلذ الأعين بحضوره ، ثم إن في اللفظ لطيفة ، وهي أنه تعالى قال : { مما يتخيرون } ولم يقل : مما يختارون مع قرب أحدهما إلى الآخر في المعنى ، وهو أن التخير من باب التكلف فكأنهم يأخذون ما يكون في نهاية الكمال ، وهذا لا يوجد إلا ممن لا يكون له حاجة ولا اضطرار .

المسألة الثالثة : ما الحكمة في تقديم الفاكهة على اللحم ؟ نقول : الجواب عنه من وجوه ( أحدها ) العادة في الدنيا التقديم للفواكه في الأكل والجنة وضعت بما علم في الدنيا من الأوصاف وعلى ما علم فيها ، ولاسيما عادة أهل الشرب وكأن المقصود بيان حال شرب أهل الجنة ( وثانيها ) الحكمة في الدنيا تقتضي أكل الفاكهة أولا لأنها ألطف وأسرع انحدارا وأقل حاجة إلى المكث الطويل في المعدة للهضم ، ولأن الفاكهة تحرك الشهوة للأكل واللحم يدفعها ( وثالثها ) يخرج مما ذكرنا جوابا خلا عن لفظ التخيير والاشتهاء هو أنه تعالى لما بين أن الفاكهة دائمة الحضور والوجود ، واللحم يشتهي ويحضر عند الاشتهاء دل هذا على عدم الجوع لأن الجائع حاجته إلى اللحم أكثر من اختياره اللحم فقال : { وفاكهة } لأن الحال في الجنة يشبه حال الشبعان في الدنيا فيميل إلى الفاكهة أكثر فقدمها ، وهذا الوجه أصح لأن من الفواكه مالا يؤكل إلا بعد الطعام ، فلا يصح الأول جوابا في الكل .