مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{نَحۡنُ خَلَقۡنَٰكُمۡ فَلَوۡلَا تُصَدِّقُونَ} (57)

ثم قال تعالى : { نحن خلقناكم فلولا تصدقون ، أفرأيتم ما تمنون ، أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون } دليلا على كذبهم وصدق الرسل في الحشر لأن قوله : { أأنتم تخلقونه } إلزام على الإقرار بأن الخالق في الابتداء هو الله تعالى ، ولما كان قادرا على الخلق أولا كان قادرا على الخلق ثانيا ، ولا مجال للنظر في ذاته وصفاته تعالى وتقدس ، وإن لم يعترفوا به ، بل يشكون ويقولون : الخلق الأول من مني بحسب الطبيعة ، فنقول : المنى من الأمور الممكنة ولا وجود للممكن بذاته بل بالغير على ما عرف ، فيكون المنى من القادر القاهر ، وكذلك خلق الطبيعة وغيرها من الحادثات أيضا ، فقال لهم : هل تشكون في أن الله خلقكم أولا أم لا ؟ فإن قالوا : لا نشك في أنه خالقا ، فيقال : فهل تصدقون أيضا بخلقكم ثانيا ؟ فإن من خلقكم أولا من لا شيء لا يعجز أن يخلقكم ثانيا من أجزاء هي عنده معلومة ، وإن كنتم تشكون وتقولون : الخلق لا يكون إلا من مني وبعد الموت لا والده ولا مني ، فيقال لهم : هذا المني أنتم تخلقونه أم الله ، فإن كنتم تعترفون بالله وبقدرته وإرادته وعمله ، فذلك يلزمكم القول بجواز الحشر وصحته ، و ( لولا ) كلمة مركبة من كلمتين معناها التحضيض والحث والأصل فيه : لم لا ، فإذا قلت : لم لا أكلت ولم ما أكلت ، جاز الاستفهامان ، فإن معناه لا علة لعدم الأكل ولا يمكنك أن تذكر علة له ، كما تقول : لم فعلت ؟ موبخا ، يكون معناه فعلت أمرا لا سبب له ولا يمكنك ذكر سبب له ثم إنهم تركوا حرف الاستفهام عن العلة وأتوا بحرف الاستفهام عن الحكم ، فقالوا : هلا فعلت ؟ كما يقولون في موضع : لم فعلت هذا وأنت تعلم فساده ، أتفعل هذا وأنت عاقل ؟ وفيه زيادة حث لأن قول القائل : لم فعلت حقيقته سؤال عن العلة ، ومعناه أن علته غير معلومة وغير ظاهرة ، فلا يجوز ظهور وجوده ، وقوله : أفعلت ، سؤال عن حقيقته ، ومعناه أنه في جنسه غير ممكن ، والسائل عن العلة كأنه سلم الوجود وجعله معلوما وسأل عن العلة كما يقول القائل : زيد جاء فلم جاء ، والسائل عن الوجود لم يسلمه ، وقول القائل : لم فعلت وأنت تعلم ما فيه دون قوله : أفعلت وأنت تعلم ما فيه ، لأن في الأول جعله كالمصيب في فعله لعلة خفية تطلب منه ، وفي الثاني جعله مخطئا في أول الأمر ، وإذا علم ما بين لم فعلت ، وأفعلت ، علم ما بين لم تفعل وهلا تفعل ، وأما ( لولا ) فنقول : هي كلمة شرط في الأصل والجملة الشرطية غير مجزومة بها كما أن جملة الاستفهام غير مجزوم به لكن لولا تدل على الاعتساف وتزيد نفي النظر والتواني ، فيقول : لولا تصدقون ، بدل قوله : لم لا ، وهلا ، لأنه أدل على نفي ما دخلت عليه وهو عدم التصديق ( وفيه لطيفة ) وهي أن لولا تدخل على فعل ماض على مستقبل قال تعالى :

{ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } فما وجه اختصاص المستقبل هاهنا بالذكر وهلا قال : فلولا صدقتم ؟ نقول : هذا كلام معهم في الدنيا والإسلام فيها مقبول ويجب ما قبله فقال : لم لا تصدقون في ساعتكم ، والدلائل واضحة مستمر والفائدة حاصلة ، فأما في قوله : { فلولا نفر } لم تكن الفائدة تحصل إلا بعد مدة فقال : لو سافرتم لحصل لكم الفائدة في الحال وقد فات ذلك ، فإن كنتم لا تسافرون في الحال تفوتكم الفائدة أيضا في الاستقبال .