مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّهُۥ لَقُرۡءَانٞ كَرِيمٞ} (77)

قوله تعالى : { إنه لقرآن كريم ، في كتاب مكنون ، لا يمسه إلا المطهرون ، تنزيل من رب العالمين } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : الضمير في قوله تعالى : { إنه } عائد إلى ماذا ؟ فنقول : فيه وجهان ( أحدهما ) إلى معلوم وهو الكلام الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وكان معروفا عند الكل ، وكان الكفار يقولون : إنه شعر وإنه سحر ، فقال تعالى ردا عليهم : { إنه لقرآن } عائد إلى مذكور وهو جميع ما سبق في سورة الواقعة من التوحيد ، والحشر ، والدلائل المذكورة عليهما ، والقسم الذي قال فيه : { وإنه لقسم } وذلك لأنهم قالوا : هذا كله كلام محمد ومخترع من عنده ، فقال : { إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون } .

المسألة الثانية : القرآن مصدر أو اسم غير مصدر ؟ فنقول : فيه وجهان أحدهما : مصدر أريد به المفعول وهو المقروء ومثله في قوله تعالى : { ولو أن قرآنا سيرت به الجبال } وهذا كما يقال في الجسم العظيم : أنظر إلى قدرة الله تعالى أي مقدوره وهو كما في قوله تعالى : { هذا خلق الله فأروني } ( ثانيهما ) اسم لما يقرأ كالقربان لما يتقرب به ، والحلوان لما يحلى به فم المكاري أو الكاهن وعلى هذا سنبين فساد قول من رد على الفقهاء قولهم في باب الزكاة يعطى شيئا أعلى مما وجب ويأخذ الجبران أو يعطى شيئا دونه ، ويعطى الجبران أيضا ، حيث قال : الجبران مصدر لا يؤخذ ولا يعطى ، فيقال له هو كالقرآن بمعنى المقروء ، ويجوز أن يقال : لما أخذ جابر أو مجبور أو يقال : هو اسم لما يجبر به كالقربان .

المسألة الثالثة : إذا كان هذا الكلام للرد على المشركين فهم ما كانوا ينكرون كونه مقروءا فما الفائدة في قوله : { إنه لقرآن } ؟ نقول فيه وجهان ( أحدهما ) أنه إخبار عن الكل وهو قوله : قرآن كريم فهم كانوا ينكرون كونه قرآنا كريما وهم ما كانوا يقرون به ( وثانيهما ) وهو أحسن من الأول ، أنهم قالوا : هو مخترع من عنده وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إنه مسموع سمعته وتلوته عليكم فما كان القرآن عندهم مقروءا ، وما كانوا يقولون : إن النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن وفرق بين القراءة والإنشاء ، فلما قال : { إنه لقرآن } أثبت كونه مقروءا على النبي صلى الله عليه وسلم ليقرأ ويتلى فقال تعالى : { إنه لقرآن } سماه قرآنا لكثرة ما قرئ ، ويقرأ إلى الأبد بعضه في الدنيا وبعضه في الآخرة .

المسألة الرابعة : قوله : { كريم } فيه لطيفة ؟ وهي أن الكلام إذا قرئ كثيرا يهون في الأعين والآذان ، ولهذا ترى من قال : شيئا في مجلس الملوك لا يذكره ثانيا ، ولو قيل فيه : يقال لقائله لم تكرر هذا ، ثم إنه تعالى لما قال : { إنه لقرآن } أي مقروء قرئ ويقرأ ، قال : { كريم } أي لا يهون بكثرة التلاوة ويبقى أبد الدهر كالكلام الغض والحديث الطري ، ومن هنا يقع أن وصف القرآن بالحديث مع أنه قديم يستمد من هذا مددا فهو قديم يسمعه السامعون كأنه كلام الساعة ، وما قرع سمع الجماعة لأن الملائكة الذين علموه قبل النبي بألوف من السنين إذا سمعوه من أحدنا يتلذذون به التذاذ السامع بكلام جديد لم يذكر له من قبل ، والكريم اسم جامع لصفات المدح ، قيل : الكريم هو الذي كان طاهر الأصل ظاهر الفضل ، حتى إن من أصله غير زكي لا يقال له كريم مطلقا ، بل يقال له : كريم في نفسه ، ومن يكون زكي الأصل غير زكي النفس لا يقال له : كريم إلا مع تقييد ، فيقال : هو كريم الأصل لكنه خسيس في نفسه ، ثم إن السخي المجرد هو الذي يكثر عطاؤه للناس ، أو يسهل عطاؤه ويسمى كريما ، وإن لم يكن له فضل آخر لا على الحقيقة ولكن ذلك لسبب ، وهو أن الناس يحبون من يعطيهم ، ويفرحون بمن يعطى أكثر مما يفرحون بغيره ، فإذا رأوا زاهدا أو عالما لا يسمونه كريما ، ويؤيد هذا أنهم إذا رأوا واحدا لا يطلب منهم شيئا يسمونه كريم النفس لمجرد تركه الاستعطاء لما أن الأخذ منهم صعب عليهم وهذا كله في العادة الرديئة ، وأما في الأصل فيقال : الكريم هو الذي استجمع فيه ما ينبغي من طهارة الأصل وظهور الفضل ، ويدل على هذا أن السخي في معاملته ينبغي أن لا يوجد منه ما يقال بسببه إنه لئيم ، فالقرآن أيضا كريم بمعنى طاهر الأصل ظاهر الفضل لفظه فصيح ، ومعناه صحيح لكن القرآن أيضا كريم على مفهوم العوام فإن كل من طلب منه شيئا أعطاه ، فالفقيه يستدل به ويأخذ منه ، والحكيم يستمد به ويحتج به ، والأديب يستفيد منه ويتقوى به ، والله تعالى وصف القرآن بكونه كريما ، وبكونه عزيزا ، وبكونه حكيما ، فلكونه كريما كل من أقبل عليه نال منه ما يريده فإن كثيرا من الناس لا يفهم من العلوم شيئا وإذا اشتغل بالقرآن سهل عليه حفظه ، وقلما يرى شخص يحفظ كتابا يقرؤه بحيث لا يغير منه كلمة بكلمة ، ولا يبدل حرفا بحرف وجميع القراء يقرأون القرآن من غير توقف ولا تبديل ، ولكونه عزيزا أن كل من يعرض عنه لا يبقى معه منه شيء ، بخلاف سائر الكتب ، فإن من قرأ كتابا وحفظه ثم تركه يتعلق بقلبه معناه حتى ينقله صحيحا ، والقرآن من تركه لا يبقى معه منه شيء لعزته ولا يثبت عند من لا يلزمه بالحفظ ، ولكونه حكيما من اشتغل به وأقبل عليه بالقلب أغناه عن سائر العلوم .