مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡمُكَذِّبِينَ ٱلضَّآلِّينَ} (92)

قوله تعالى : { وأما إن كان من المكذبين الضالين ، فنزل من حميم ، وتصلية جحيم } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : قال هاهنا : { من المكذبين الضالين } وقال من قبل : { ثم إنكم أيها الضالون المكذبون } وقد بينا فائدة التقديم والتأخير هناك .

المسألة الثانية : ذكر الأزواج الثلاثة في أول السورة بعبارة وأعادهم بعبارة أخرى فقال : { أصحاب الميمنة } ثم قال : { أصحاب اليمين } وقال : { أصحاب المشأمة } ثم قال : { أصحاب الشمال } وأعادهم هاهنا ، وفي المواضع الثلاثة ذكر أصحاب اليمين بلفظ واحد أو بلفظين مرتين ، أحدهما غير الآخر ، وذكر السابقين في أول السورة بلفظ السابقين ، وفي آخر السورة بلفظ المقربين ، وذكر أصحاب النار في الأول بلفظ { أصحاب المشأمة } ثم بلفظ { أصحاب الشمال } ثم بلفظ { المكذبين } فما الحكمة فيه ؟ نقول : أما السابق فله حالتان إحداهما في الأولى ، والأخرى في الآخرة ، فذكره في المرة الأولى بماله في الحالة الأولى ، وفي الثانية بماله في الحالة الآخرة ، وليس له حالة هي واسطة بين الوقوف للعرض وبين الحساب ، بل هو ينقل من الدنيا إلى أعلى عليين ، ثم ذكر أصحاب اليمين بلفظين متقاربين ، لأن حالهم قريبة من حال السابقين ، وذكر الكفار بألفاظ ثلاثة كأنهم في الدنيا ضحكوا عليهم بأنهم أصحاب موضع شؤم ، فوصفوهم بموضع الشؤم ، فإن المشأمة مفعلة وهي الموضع ، ثم قال : { أصحاب الشمال } فإنهم في الآخرة يؤتون كتابهم بشمالهم ، ويقفون في موضع هو شمال ، لأجل كونهم من أهل النار ، ثم إنه تعالى لما ذكر حالهم في أول الحشر بكونهم من أصحاب الشمال ذكر ما يكون لهم من السموم والحميم ، ثم لم يقتصر عليه ، ثم ذكر السبب فيه ، فقال : { إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرون } فذكر سبب العقاب لما بينا مرارا أن العادل يذكر للعقاب سببا ، والمتفضل لا يذكر للإنعام والتفضل سببا ، فذكرهم في الآخرة ما عملوه في الدنيا ، فقال : { وأما إن كان من المكذبين } ليكون ترتيب العقاب على تكذيب الكتاب فظهر العدل ، وغير ذلك ظاهر .