{ سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : التسبيح تبعيد الله تعالى من السوء ، وكذا التقديس من سبح في الماء وقدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد .
واعلم أن التسبيح عن السوء يدخل فيه تبعيد الذات عن السوء ، وتبعيد الصفات وتبعيد الأفعال ، وتبعيد الأسماء وتبعيد الأحكام ، أما في الذات : فأن لا تكون محلا للإمكان ، فإن السوء هو العدم وإمكانه ، ثم نفي الإمكان يستلزم نفي الكثرة ، ونفيها يستلزم نفي الجسمية والعرضية ، ونفي الضد والند وحصول الوحدة المطلقة . وأما في الصفات : فأن يكون منزها عن الجهل بأن يكون محيطا بكل المعلومات ، ويكون قادرا على كل المقدورات ، وتكون صفاته منزهة عن التغيرات . وأما في الأفعال : فأن تكون فاعليته موقوفة على مادة ومثال ، لأن كل مادة ومثال فهو فعله ، لما بينا أن كل ما عداه فهو ممكن ، وكل ممكن فهو فعله ، فلو افتقرت فاعليته إلى مادة ومثال ، لزم التسلسل ، وغير موقوفة على زمان ومكان ، لأن كل زمان فهو مركب من أجزاء منقضية ، فيكون ممكنا ، كل مكان فهو يعد ممكن مركب من أفراد الأحياز ، فيكون كل واحد منهما ممكنا ومحدثا ، فلو افتقرت فاعليته إلى زمان وإلى مكان ، لافتقرت فاعلية الزمان والمكان إلى زمان ومكان ، فيلزم التسلسل ، وغير موقوفة على جلب منفعة ، ولا دفع مضرة ، وإلا لكان مستكملا بغيره ناقصا في ذاته ، وذلك محال . وأما في الأسماء : فكما قال : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } . وأما في الأحكام : فهو أن كل ما شرعه فهو مصلحة وإحسان وخير ، وأن كونه فضلا وخيرا ليس على سبيل الوجوب عليه ، بل على سبيل الإحسان ، وبالجملة يجب أن يعلم من هذا الباب أن حكمه وتكليفه لازم لكل أحد ، وأنه ليس لأحد عليه حكم ولا تكليف ولا يجب لأحد عليه شيء أصلا ، فهذا هو ضبط معاقد التسبيح .
المسألة الثانية : جاء في بعض الفواتح { سبح } على لفظ الماضي ، وفي بعضها على لفظ المضارع ، وذلك إشارة إلى أن كون هذه الأشياء مسبحة غير مختص بوقت دون وقت ، بل هي كانت مسبحة أبدا في الماضي ، وتكون مسبحة أبدا في المستقبل ، وذلك لأن كونها مسبحة صفة لازمة لماهياتها ، فيستحيل انفكاك تلك الماهيات عن ذلك التسبيح ، وإنما قلنا : إن هذه المسبحية صفة لازمة لماهياتها ، لأن كل ما عدا الواجب ممكن ، وكل ممكن فهو مفتقر إلى الواجب ، وكون الواجب واجبا يقتضي تنزيهه عن كل سوء في الذات والصفات والأفعال والأحكام والأسماء على ما بيناه ، فظهر أن هذه المسبحية كانت حاصلة في الماضي ، وتكون حاصلة في المستقبل ، والله أعلم .
المسألة الثالثة : هذا الفعل تارة عدي باللام كما في هذه السورة ، وأخرى بنفسه كما في قوله : { وتسبحوه بكرة وأصيلا } وأصله التعدي بنفسه ، لأن معنى سبحته أي بعدته عن السوء ، فاللام إما أن تكون مثل اللام في نصحته ونصحت له ، وإما أن يراد يسبح لله أحدث التسبيح لأجل الله وخالصا لوجهه .
المسألة الرابعة : زعم الزجاج أن المراد بهذا التسبيح ، التسبيح الذي هو القول ، واحتج عليه بوجهين ( الأول ) : أنه تعالى قال : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم } فلو كان المراد من التسبيح ، هو دلالة آثار الصنع على الصانع لكانوا يفقهونه ( الثاني ) : أنه تعالى قال : { وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن } فلو كان تسبيحا عبارة عن دلالة الصنع على الصانع لما كان في ذلك تخصيص لداود عليه السلام . واعلم أن هذا الكلام ضعيف [ لحجتين ] :
أما الأولى : فلأن دلالة هذه الأجسام على تنزيه ذات الله وصفاته وأفعاله من أدق الوجوه ، ولذلك فإن العقلاء اختلفوا فيها ، فقوله : { ولكن لا تفقهون } لعله إشارة إلى أقوام جهلوا بهذه الدلالة ، وأيضا فقوله : { لا تفقهون } إشارة إن لم يكن إشارة إلى جمع معين ، فهو خطاب مع الكل فكأنه قال : كل هؤلاء ما فقهوا ذلك ، وذلك لا ينافي أن يفقهه بعضهم .
وأما الحجة الثانية : فضعيفة ، لأن هناك من المحتمل أن الله خلق حياة في الجبل حتى نطق بالتسبيح . أما هذه الجمادات التي تعلم بالضرورة أنها جمادات يستحيل أن يقال : إنها تسبح الله على سبيل النطق بذلك التسبيح ، إذ لو جوزنا صدور الفعل المحكم عن الجمادات لما أمكننا أن نستدل بأفعال الله تعالى على كونه عالما حيا ، وذلك كفر ، بل الحق أن التسبيح الذي هو القول لا يصدر إلا من العاقل العارف بالله تعالى ، فينوي بذلك القول تنزيه ربه سبحانه ، ومثل ذلك لا يصح من الجمادات ، فإذا التسبيح العام الحاصل من العاقل والجماد لا بد وأن يكون مفسرا بأحد وجهين ( الأول ) : أنها تسبح بمعنى أنها تدل على تعظيمه وتنزيهه ( والثاني ) : أن الممكنات بأسرها منقادة له يتصرف فيها كيف يريد ليس له عن فعله وتكوينه مانع ولا دافع ، إذا عرفت هذه المقدمة ، فنقول : إن حملنا التسبيح المذكور في الآية على التسبيح بالقول ، كان المراد بقوله : { ما في السماوات } من في السماوات ومنهم حملة العرش : { فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون } ومنهم المقربون : { قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم } ومن سائر الملائكة : { قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا } وأما المسبحون الذين هم في الأرض فمنهم الأنبياء كما قال ذو النون : { لا إله إلا أنت سبحانك } وقال موسى : { سبحانك إني تبت إليك } والصحابة يسبحون كما قال : { سبحانك فقنا عذاب النار } وأما إن حملنا هذا التسبيح على التسبيح المعنوي : فأجزاء السماوات وذرات الأرض والجبال والرمال والبحار والشجر والدواب والجنة والنار والعرش والكرسي واللوح والقلم والنور والظلمة والذوات والصفات والأجسام والأعراض كلها مسبحة خاشعة خاضعة لجلال الله منقادة لتصرف الله كما قال عز من قائل : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } وهذا التسبيح هو المراد بالسجود في قوله : { ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض } أما قوله : { وهو العزيز الحكيم } فالمعنى أنه القادر الذي لا ينازعه شيء ، فهو إشارة إلى كمال القدرة ، والحكيم إشارة إلى أنه العالم الذي لا يحتجب عن علمه شيء من الجزئيات والكليات أو أنه الذي يفعل أفعاله على وفق الحكمة والصواب ، ولما كان العلم بكونه قادرا متقدما على العلم بكونه عالما لا جرم قدم العزيز على الحكيم في الذكر .
واعلم أن قوله : { وهو العزيز الحكيم } يدل على أن العزيز ليس إلا هو لأن هذه الصيغة تفيد الحصر ، يقال : زيد هو العالم لا غيره ، فهذا يقتضي أنه لا إله إلا الواحد ، لأن غيره ليس بعزيز ولا حكيم ومالا يكون كذلك لا يكون إلها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.