مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{تَنزِيلٞ مِّن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (80)

المسألة العاشرة : قوله : { تنزيل من رب العالمين } مصدر ، والقرآن الذي في كتاب ليس تنزيلا إنما هو منزل كما قال تعالى : { نزل به الروح الأمين } نقول : ذكر المصدر وإرادة المفعول كثير كما قلنا في قوله تعالى : { هذا خلق الله } فإن قيل : ما فائدة العدول عن الحقيقة إلى المجاز في هذا الموضع ؟ فنقول : التنزيل والمنزل كلاهما مفعولان ولهما تعلق بالفاعل ، لكن تعلق الفاعل بالمصدر أكثر ، وتعلق المفعول عبارة عن الوصف القائم به ، فنقول : هذا في الكلام ، فإن كلام الله أيضا وصف قائم بالله عندنا ، وإنما نقول : من حيث الصيغة واللفظ ولك أن تنظر في مثال آخر ليتيسر لك الأمر من غير غلط وخطأ في الاعتقاد ، فنقول : في القدرة والمقدور تعلق القدرة بالفاعل أبلغ من تعلق المقدور ، فإن القدرة في القادر والمقدور ليس فيه ، فإذا قال : هذا قدرة الله تعالى كان له من العظمة مالا يكون في قوله : هذا مقدور الله ، لأن عظمة الشيء بعظمة الله ، فإذا جعلت الشيء قائما بالتعظيم غير مباين عنه كان أعظم ، وإذا ذكرته بلفظ يقال مثله فيما لا يقوم بالله وهو المفعول به كان دونه ، فقال : { تنزيل } ولم يقل : منزل ، ثم إن هاهنا : ( بلاغة أخرى ) وهي أن المفعول قد يذكر ويراد به المصدر على ضد ما ذكرنا ، كما في قوله :

{ مدخل صدق } أي دخول صدق أو إدخال صدق وقال تعالى : { كل ممزق } أي تمزيق ، فالممزق بمعنى التمزيق ، كالمنزل بمعنى التنزيل ، وعلى العكس سواء ، وهذه البلاغة هي أن الفعل لا يرى ، والمفعول به يصير مرئيا ، والمرئي أقوى في العلم ، فيقال : مزقهم تمزيقا وهو فعل معلوم لكل أحد علما بينا يبلغ درجة الرؤية ويصير التمزق هنا كما صار الممزق ثابتا مرئيا ، والكلام يختلف بمواضع الكلام ، ويستخرج الموفق بتوفيق الله ، وقوله : { من رب العالمين } أيضا لتعظيم القرآن ، لأن الكلام يعظم بعظمة المتكلم ، ولهذا يقال لرسول الملك هذا كلام الملك أو كلامك وهذا كلام الملك الأعظم أو كلام الملك الذي دونه ، إذا كان الرسول رسول ملوك ، فيعظم الكلام بقدر عظمة المتكلم ، فإذا قال : { من رب العالمين } تبين منه عظمة لا عظمة مثلها وقد بينا تفسير العالم وما فيه من اللطائف ، وقوله : { تنزيل } رد على طائفة أخرى ، وهم الذين يقولون : إنه في كتاب و لا يمسه إلا المطهرون وهم الملائكة ، لكن الملك يأخذ ويعلم الناس من عنده ولا يكون من الله تعالى ، وذلك أن طائفة من الروافض يقولون : إن جبرائيل أنزل على علي ، فنزل على محمد ، فقال تعالى : هو من الله ليس باختيار الملك أيضا ، وعند هذا تبين الحق فعاد إلى توبيخ الكفار .