قوله تعالى : { هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في تفسير هذه الآية : « إنه الأول ليس قبله شيء والآخر ليس بعده شيء » وأعلم أن هذا المقام مقام مهيب غامض عميق والبحث فيه من وجوه : ( الأول ) : أن تقدم الشيء على الشيء يعقل على وجوه ( أحدها ) : التقدم بالتأثير فإنا نعقل أن لحركة الأصبع تقدما على حركة الخاتم ، والمراد من هذا التقدم كون المتقدم مؤثرا في المتأخر ( وثانيها ) : التقدم بالحاجة لا بالتأثير ، لأنا نعقل احتياج الاثنين إلى الواحد وإن كنا نعلم أن الواحد ليس علة للاثنين ( وثالثها ) : التقدم بالشرف كتقدم أبي بكر على عمر ( ورابعها ) : التقدم بالرتبة ، وهو إما من مبدأ محسوس كتقدم الإمام على المأموم ، أو من مبدأ معقول ، وذلك كما إذا جعلنا المبدأ هو الجنس العالي ، فإنه كلما كان النوع أشد تسفلا كان أشد تأخرا ، ولو قلبناه انقلب الأمر ( وخامسها ) : التقدم بالزمان ، وهو أن الموجود في الزمان المتقدم ، متقدم على الموجود في الزمان المتأخر ، فهذا ما حصله أرباب العقول من أقسام القبلية والتقدم وعندي أن هاهنا قسما سادسا ، وهو مثل تقدم بعض أجزاء الزمان على البعض ، فإن ذلك التقدم ليس تقدما بالزمان ، وإلا وجب أن يكون الزمان محيطا بزمان آخر ، ثم الكلام في ذلك المحيط كالكلام في المحاط به ، فيلزم أن يحيط بكل زمان زمان آخر لا نهاية بحيث تكون كلها حاضرة في هذا الآن ، فلا يكون هذا الآن الحاضر واحدا ، بل يكون كل حاضر في حاضر آخر لا إلى نهاية وذلك غير معقول ، وأيضا فلأن مجموع تلك الآنات الحاضرة متأخر عن مجموع الآنات الماضية ، فلمجموع الأزمنة زمان آخر محيط بها لكن ذلك محال ، لأنه لما كان زمانا كان داخلا في مجموع الأزمنة ، فإذا ذلك لزمان داخل في ذلك المجموع وخارج عنه وهو محال ، فظهر بهذا البرهان الظاهر أن تقدم بعض أجزاء الزمان على البعض ليس بالزمان ، وظاهر أنه ليس بالعلة ولا بالحاجة ، وإلا لوجدا معا ، كما أن العلة والعلول يوجدان معا ، والواحد والاثنين يوجدان معا ، وليس أيضا بالشرف ولا بالمكان ، فثبت أن تقدم بعض أجزاء الزمان على البعض قسم سادس غير الأقسام الخمسة المذكورة ، وإذا عرفت هذا فنقول : إن القرآن دل على أنه تعالى أول لكل ما عداه ، والبرهان دل أيضا على هذا المعنى ، لأنا نقول : كل ما عدا الواجب ممكن ، وكل ممكن محدث ، فكل ما عدا الواجب فهو محدث ، وذلك الواجب أول لكل ما عداه ، إنما قلنا : أن ما عدا الواجب ممكن ، لأنه لو وجد شيئان واجبان لذاتهما لاشتركا في الواجب الذاتي ، ولتباينا بالتعين وما به المشاركة غير ما به الممايزة ، فيكون كل واحد منهما مركبا ، ثم كل واحد من جزأيه إن كان واجبا فقد اشترك الجزآن في الوجوب وتباينا بالخصوصية ، فيكون كل واحد من ذينك الجزأين أيضا مركبا ولزم التسلسل ، وإن لم يكونا واجبين أو لم يكن أحدهما واجبا ، كان الكل المتقوم به أولى بأن لا يكون واجبا ، فثبت أن كل ما عدا الواجب ممكن ، وكل ممكن محدث ، لأن كل ممكن مفتقر إلى المؤثر ، وذلك الافتقار إما حال الوجود أو حال العدم ، فإذا كان حال الوجود ، فإما حال البقاء وهو محال لأنه يقتضي إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل وهو محال ، فإن تلك الحاجة إما حال الحدوث أو حال العدم ، وعلى التقديرين فيلزم أن يكون كل ممكن محدثا ، فثبت أن كل ما عدا ذلك الواجب فهو محدث محتاج إلى ذلك الواجب ، فإذا ذلك الواجب يكون قبل كل ما عداه ، ثم طلب العقل كيفية تلك القبلية فقلنا : لا يجوز أن تكون تلك القبلية بالتأثير ، لأن المؤثر من حيث هو مؤثر مضاف إلى الأثر من حيث هو أثر والمضافان معا ، والمع لا يكون قبل ، ولا يجوز أن تكون لمجرد الحاجة لأن المحتاج والمحتاج إليه لا يمتنع أن يوجدا معا ، وقد بينا أن تلك المعية هاهنا ممتنعة ، ولا يجوز أن تكون لمحض الشرف فإنه ليس المطلوب من هذه القبلية هاهنا مجرد أنه تعالى أشرف من الممكنات ، وأما القبلية المكانية فباطلة ، وبتقدير ثبوتها فتقدم المحدث على المحدث أمر زائد آخر وراء كون أحدهما فوق الآخر بالجهة ، وأما التقدم الزماني فباطل ، لأن الزمان أيضا ممكن ومحدث ، أما أولا فلما بينا أن واجب الوجود لا يكون أكثر من واحد ، وأما ثانيا فلأن أمارة الإمكان والحدوث فيه أظهر كما في غيره لأن جميع أجزائه متعاقبة ، وكل ما وجد بعد العدم وعدم بعد الوجود فلا شك أنه ممكن المحدث ، وإذا كان جميع أجزاء الزمان ممكنا ومحدثا والكل متقوم بالأجزاء فالمفتقر إلى الممكن المحدث أولى بالإمكان والحدوث ، فإذن الزمان بمجموعه وبأجزائه ممكن ومحدث ، فتقدم موجده عليه لا يكون بالزمان ، لأن المتقدم على جميع الأزمنة لا يكون بالزمان ، وإلا فيلزم في ذلك الزمان أن يكون داخلا في مجموع الأزمنة لأنه زمان ، وأن يكون خارجا عنها لأنه ظرفها ، والظرف مغاير للمظروف لا محال ، لكن كون الشيء الواحد داخلا في شيء وخارجا عنه محال ، وأما ثالثا فلأن الزمان ماهيته تقتضي السيلان والتجدد ، وذلك يقتضي المسبوقية بالغير والأزل ينافي المسبوقية بالغير ، فالجمع بينهما محال ، فثبت أن تقدم الصانع على كل ما عداه ليس بالزمان البتة ، فإذن الذي عند العقل أنه متقدم على كل ما عداه ، أنه ليس ذلك التقدم على أحد هذه الوجوه الخمسة ، فبقي أنه نوع آخر من التقدم يغاير هذه الأقسام الخمسة ، فأما كيفية ذلك التقدم فليس عند العقل منها خبر ، لأن كل ما يخطر ببال العقل فإنه لا بد وأن يقترن به حال من الزمان ، وقد دل الدليل على أن كل ذلك محال ، فإذن كونه تعالى أولا معلوم على سبيل الإجمال ، فأما على سبيل التفصيل والإحاطة بحقيقة تلك الأولية ، فليس عند عقول الخلق منه أثر .
النوع الثاني : من هذا غوامض الموضع ، وهو أن الأزل متقدم على اللا يزال ، وليس الأزل شيئا سوى الحق ، فتقدم الأزل على اللا يزال ، يستدعي الامتياز بين الأزل وبين اللا يزال ، فهذا يقتضي أن يكون اللا يزال له مبدأ وطرف ، حتى يحصل هذا الامتياز ، لكن فرض هذا الطرف محال ، لأن كل مبدأ فرضته ، فإن اللايزاو ، كان حاصلا قبله ، لأن المبدأ الذي يفرض قبل ذلك الطرف المفروض بزيادة مائة سنة ، يكون من جملة اللايزال ، لا من جملة الأزل ، فقد كان معنى اللايزال موجودا قبل أن كان موجودا وذلك محال .
النوع الثالث : من غوامض هذا الموضوع ، أن امتياز الأزل عن اللا يزال ، يستدعي انقضاء حقيقة الأزل ، وانقضاء حقيقة الأزل محال ، لأن مالا أول له يمتنع انقضاؤه ، وإذا امتنع انقضاؤه امتنع أن يحصل عقيبه ماهية اللا يزال ، فإذن يمتنع امتياز الأزل عن اللا يزال ، وامتياز اللا يزال عن الأزال ، وإذا امتنع حصول هذا الامتياز امتنع حصول التقدم والتأخر ، فهذه أبحاث غامضة في حقيقة التقدم والأولية والأزلية ، وما هي إلا بسبب حيرة العقول البشرية في نور جلال ماهية الأزلية والأولية ، فإن العقل إنما يعرف الشيء إذا أحاط به ، وكل ما استحضره العقل ، ووقف عليه فذاك يصير محاطا به ، والمحاط يكون متناهيا ، والأزلية تكون خارجة عنه ، فهو سبحانه ظاهر باطن في كونه أولا ، لأن العقول شاهدة بإسناد المحدثات إلى موجد متقدم عليها فكونه تعالى أولا أظهر من كل ظاهر من هذه الجهة ، ثم إذا أردت أن تعرف حقيقة تلك الأولية عجزت لأن كل ما أحاط به عقلك وعلمك فهو محدود عقلك ومحاط علمك فيكون متناهيا ، فتكون الأولية خارجة عنا ، فكونه تعالى أولا إذا اعتبرته من هذه الجهة كان إبطن من كل باطن ، فهذا هو البحث عن كونه تعالى أولا .
أما البحث : عن كونه آخرا ، فمن الناس من قال : هذا محال ، لأنه تعالى إنما يكون آخر الكل ما عداه ، لو بقي هو مع عدم كل ما عداه لكن عدم ما عداه إنما يكون بعد وجوده ، وتلك البعدية ، زمانية ، فإذن لا يمكن فرض عدم كل عداه إلا مع وجود الزمان الذي به تتحقق تلك البعدية ، فإذن حال ما فرض عدم كل ما عداه ، أن لا يعدم كل ما عداه ، فهذا خلف ، فإذن فرض بقائه مع عدم كل ما عداه محال ، وهذه الشبهة مبنية أيضا على أن التقدم والتأخر لا يتقرران إلا بالزمان ، وقد دللنا على فساد هذه المقدمة فبطلت هذه الشبهة ، وأما الذين سلموا إمكان عدم كل ما عداه مع بقائه ، فمنهم من أوجب ذلك حتى يتقرر كونه تعالى آخرا للكل ، وهذا مذهب جهم ، فإنه زعم أنه سبحانه يوصل الثواب إلى أهل الثواب ، ويوصل العقاب إلى أهل العقاب ، ثم يفني الجنة وأهلها ، والنار وأهلها ، والعرش والكرسي والملك والفلك ، ولا يبقى مع الله شيء أصلا ، فكما أنه كان موجودا في الأزل ولا شيء يبقى موجودا في اللا يزال أبد الآباد ولا شيء ، واحتج عليه بوجوه ( أولها ) : قوله هو الآخر ، يكون آخرا إلا عند فناء الكل ( وثانيها ) : أنه تعالى إما أن يكون عالما بعدد حركات أهل الجنة والنار ، أو لا يكون عالما بها ، فإن كان عالما بها كان عالما بكميتها ، وكل ماله عدد معين فهو متناه ، فإذن حركات أهل الجنة متناهية ، فإذن لا بد وأن يحصل بعدها عدم أبدي غير منقض وإذا لم يكن عالما بها كان جاهلا بها والجهل على الله محال ( وثالثها ) : أن الحوادث المستقبلة قابلة للزيادة والنقصان ، وكل ما كان كذلك فهو متناه ( والجواب ) : أن إمكان استمرار هذه الأشياء حاصل إلى الأبد ، والدليل عليه هو أن هذه الماهيات لو زالت إمكاناتها ، لزم أن ينقلب الممكن لذاته ممتنعا لذاته ، ولو انقلبت قدرة الله من صلاحية التأثير إلى امتناع التأثير ، لانقلبت الماهيات وذلك محال ، فوجب أن يبقى هذا الإمكان أبدا ، فإذن ثبت أنه يجب انتهاء هذه المحدثات إلى العدم الصرف ، أما التمسك بالآية فسنذكر الجواب عنه بعد ذلك إن شاء الله تعالى ( وأما الشبهة الثانية ) : فجوابها أنه يعلم أنه ليس لها عدد معين ، وهذا لا يكون جهلا ، إنما الجهل أن يكون له عدد معين ولا يعلمه ، أما إذا لم يكن له عدد معين وأنت تعلمه على الوجه فهذا لا يكون جهلا بل علما ( وأما الشبهة الثالثة ) : فجوابها أن الخارج منه إلى الوجود أبدا لا يكون متناهيا ، ثم إن المتكلمين لما أثبتوا إمكان بقاء العالم أبدا عولوا في بقاء الجنة والنار أبدا ، على إجماع المسلمين وظواهر الآيات ، ولا يخفى تقريرها ، وأما جمهور المسلمين الذين سلموا بقاء الجنة والنار أبدا ، فقد اختلفوا في معنى كونه تعالى آخرا على وجوه ( أحدها ) : أنه تعالى يفني جميع العالم والممكنات فيتحقق كونه آخرا ، ثم إنه يوجدها ويبقيها أبدا ( وثانيها ) : أن الموجود الذي يصح في العقل أن يكون آخرا لكل الأشياء ليس إلا هو ، فلما كانت صحة آخرية كل الأشياء مختصة به سبحانه ، لا جرم وصف بكونه آخرا ( وثالثها ) : أن الوجود منه تعالى يبتدئ ، ولا يزال ينزل وينزل حتى ينتهي إلى الموجود الأخير ، الذي كون هو مسببا لكل ما عداه ، ولا يكون سببا لشيء آخر ، فبهذا الاعتبار يكون الحق سبحانه أولا ، ثم إذا انتهى أخذ يترقى من هذا الموجود الأخير درجة فدرجة حتى ينتهي إلى آخر الترقي ، فهناك وجود الحق سبحانه ، فهو سبحانه أول في نزول الوجود منه إلى الممكنات ، آخر عند الصعود من الممكنات إليه ( ورابعها ) : أنه يميت الخلق ويبقى بعدهم ، فهو سبحانه آخر بهذا الاعتبار ( وخامسها ) : أنه أول في الوجود وآخر في الاستدلال ، لأن المقصود من جميع الاستدلالات معرفة الصانع ، وأما سائر الاستدلالات التي لا يراد منها معرفة الصانع فهي حقيرة خسيسة ، أما كونه تعالى ظاهرا وباطنا ، فاعلم أنه ظاهر بحسب الوجود ، فإنك لا ترى شيئا من الكائنات والممكنات إلا ويكون دليلا على وجوده وثبوته وحقيقته وبراءته عن جهات التغير على ما قررناه ، وأما كونه تعالى باطنا فمن وجوه ( الأول ) : أن كمال كونه ظاهرا سبب لكونه باطنا ، فإن هذه الشمس لو دامت على الفلك لما كنا نعرف أن هذا الضوء إنما حصل بسببها ، بل ربما كنا نظن أن الأشياء مضيئة لذواتها إلا أنها لما كانت بحيث تغرب ثم ترى أنها متى غربت أبطلت الأنوار وزالت الأضواء عن هذا العالم ، علمنا حينئذ أن هذه الأضواء من الشمس ، فهاهنا لو أمكن انقطاع وجود الله عن هذه الممكنات لظهر حينئذ أن وجود هذه الممكنات من وجود الله تعالى ، لكنه لما دام ذلك الجود ولم ينقطع صار دوامه وكماله سببا لوقوع الشبهة ، حتى إنه ربما يظن أن نور الوجود ليس منه بل وجود كل شيء له من ذاته ، فظهر أن هذا الاستتار إنما وقع من كمال وجوده ، ومن دوام جوده ، فسبحان من اختفى عن العقول لشدة ظهوره ، واحتجب عنها بكمال نوره .
الوجه الثاني : أن ماهيته غير معقولة للبشر البتة ، ويدل عليه أن الإنسان لا يتصور ماهية الشيء إلا إذا أدركه من نفسه على سبيل الوجدان كالألم واللذة وغيرهما أو أدركه بحسه كالألوان والطعوم وسائر المحسوسات ، فأما مالا يكون كذلك فيتعذر على الإنسان أن يتصور ماهيته البتة ، وهويته المخصوصة جل جلاله ليست كذلك فلا تكون معقولة للبشر ، ويدل عليه أيضا أن المعلوم منه عند الخلق ، إما الوجود وإما السلوب ، وهو أنه ليس بجسم ولا جوهر ، وإما الإضافة ، وهو أنه الأمر الذي من شأنه كذا وكذا ، والحقيقة المخصوصة مغايرة لهذه الأمور فهي غير معقولة ويدل عليه أن أظهر الأشياء منه عند العقل كونه خالقا لهذه المخلوقات ، ومتقدما عليها ، وقد عرفت حيرة العقل ودهشته في معرفة هذه الأولية ، فقد ظهر بما قدمناه أنه سبحانه هو الأول وهو الآخر ، وهو الظاهر وهو الباطن ، وسمعت والدي رحمه الله يقول : إنه كان يروى أنه لما نزلت هذه الآية أقبل المشركون نحو البيت وسجدوا .
المسألة الثانية : احتج كثير من العلماء في إثبات أن الإله واحد بقوله : { هو الأول } قالوا الأول هو الفرد السابق ، ولهذا المعنى لو قال : أول مملوك اشتريته فهو حر ، ثم اشترى عبدين لم يعتقا ، لأن شرط كونه أولا حصول الفردية ، وهاهنا لم تحصل ، فلو اشترى بعد ذلك عبدا واحدا لم يعتق ، لأن شرط الأولية كونه سابقا وهاهنا لم يحصل ، فثبت أن الشرط في كونه أولا أن يكون فردا ، فكانت الآية دالة على أن صانع العالم فرد .
المسألة الثالثة : أكثر المفسرين قالوا : إنه أول لأنه قبل كل شيء ، وإنه آخر لأنه بعد كل شيء ، وإنه ظاهر بحسب الدلائل ، وإنه باطن عن الحواس محتجب عن الأبصار ، وأن جماعة لما عجزوا عن جواب جهم قالوا : معنى هذه الألفاظ مثل قول القائل : فلان هو أول هذا الأمر وآخره وظاهره وباطنه ، أي عليه يدور ، وبه يتم .
واعلم أنه لما أمكن حمل الآية على الوجوه التي ذكرناها مع أنه يسقط بها استدلال جهم لم يكن بنا إلى حمل الآية على هذا المجاز حاجة ، وذكروا في الظاهر والباطن أن الظاهر هو الغالب العالي على كل شيء ، ومنه قوله تعالى : { فأصبحوا ظاهرين } أي غالبين عالين ، من قولك : ظهرت على فلان أي علوته ، ومنه قوله تعالى : { عليها يظهرون } وهذا معنى ما روى في الحديث : « وأنت الظاهر فليس فوقك شيء » وأما الباطن فقال الزجاج : إنه العالم بما بطن ، كما يقول القائل : فلان يظن أمر فلان ، أي يعلم أحواله الباطنة قال الليث : يقال : أنت أبطن بهذا الأمر من فلان ، أي أخبر بباطنه ، فمعنى كونه باطنا ، كونه عالما ببواطن الأمور ، وهذا التفسير عندي فيه نظر ، لأن قوله بعد ذلك : { وهو بكل شيء عليم } يكون تكرارا . أما على التفسير الأول فإنه يحسن موقعه لأنه يصير التقدير كأنه قيل : إن أحدا لا يحيط به ولا يصل إلى أسراره ، وإنه لا يخفى عليه شيء من أحوال غيره ونظيره { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } .