مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ} (79)

المسألة السابعة : { لا يمسه } الضمير عائد إلى الكتاب على الصحيح ، ويحتمل أن يقال : هو عائد إلى ما عاد إليه المضمر من قوله : { إنه } ومعناه : لا يمس القرآن إلا المطهرون ، والصيغة إخبار ، لكن الخلاف في أنه هل هو بمعنى النهي ، كما أن قوله تعالى : { والمطلقات يتربصن } إخبار بمعنى الأمر ، فمن قال : المراد من الكتاب اللوح المحفوظ ، وهو الأصح على ما بينا ، قال : هو إخبار معنى كما هو إخبار لفظا ، إذا قلنا : إن المضمر في { يمسه } للكتاب ، ومن قال : المراد المصحف اختلف في قوله ، وفيه وجه ضعيف نقله ابن عطية أنه نهي لفظا ومعنى وجلبت إليه ضمة الهاء لا للإعراب ولا وجه له .

المسألة الثامنة : إذا كان الأصح أن المراد من الكتاب اللوح المحفوظ ، فالصحيح أن الضمير في { لا يمسه } للكتاب ، فكيف يصح قول الشافعي رحمة الله تعالى عليه : لا يجوز مس المصحف للمحدث ، نقول : الظاهر أنه ما أخذه من صريح الآية ولعله أخذه من السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى عمرو بن حزم : « لا يمس القرآن من هو على غير طهر » أو أخذه من الآية على طريق الاستنباط ، وقال : إن المس يطهر صفة من الصفات الدالة على التعظيم والمس بغير طهور نوع إهانة في المعنى ، وذلك لأن الأضداد ينبغي أن تقابل بالأضداد ، فالمس بالمطهر في مقابلة المس على غير طهر ، وترك المس خروج عن كل واحدة منهما فكذلك الإكرام في مقابلة الإهانة وهناك شيء لا إكرام ولا إهانة فنقول : إن من لا يمس المصحف لا يكون مكرما ولا مهينا وبترك المس خرج عن الضدين ففي المس عن الطهر التعظيم ، وفي المس على الحدث الإهانة فلا تجوز وهو معنى دقيق يليق بالشافعي رحمه الله ومن يقرب منه في الدرجة .

ثم إن هاهنا ( لطيفة فقهية ) لاحت لهذا الضعيف في حال تفكره في تفسير هذه الآية فأراد تقييدها هنا فإنها من فضل الله فيجب علي إكرامها بالتقييد بالكتاب ، وهي أن الشافعي رحمه الله منع المحدث والجنب من مس المصحف وجعلهما غير مطهرين ثم منع الجنب عن قراءة القرآن ولم يمنع المحدث وهو استنباط منه من كلام الله تعالى ، وذلك لأن الله تعالى منعه عن المسجد بصريح قوله : { ولا جنبا } فدل ذلك على أنه ليس أهلا للذكر لأنه لو كان أهلا للذكر لما منعه من دخول المسجد لأنه تعالى أذن لأهل الذكر في الدخول بقوله تعالى : { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه } الآية ، والمأذون في الذكر في المسجد مأذون في دخول المسجد ضرورة فلو كان الجنب أهلا للذكر لما كان ممنوعا عن دخول المسجد والمكث فيه وأنه ممنوع عنهما وعن أحدهما ، وأما المحدث فعلم أنه غير ممنوع عن دخول المسجد فإن من الصحابة من كان يدخل المسجد وجوز النبي صلى الله عليه وسلم نوم القوم في المسجد وليس النوم حدثا إذ النوم الخاص يلزمه الحكم بالحدث على اختلاف بين الأئمة وما لم يكن ممنوعا من دخول المسجد لم يثبت كونه غير أهل للذكر فجاز له القراءة ، فإن قيل : وكان ينبغي أن لا يجوز للجنب أن يسبح ويستغفر لأنه ذكر ، نقول : القرآن هو الذكر المطلق قال الله تعالى : { وإنه لذكر لك ولقومك } وقال الله تعالى : { والقرآن ذي الذكر } وقوله : { يذكر فيها اسمه } مع أنا نعلم أن المسجد يسمى مسجدا ، ومسجد القوم محل السجود ، والمراد منه الصلاة والذكر الواجب في الصلاة هو القرآن ، فالقرآن مفهوم من قوله : { يذكر فيها اسمه } ، ومن حيث المعقول هو أن غير القرآن ربما يذكر مريدا به معناه فيكون كلاما غير ذكرا ، فإن من قال : أستغفر الله أخبر عن نفسه بأمر ، ومن قال : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم كذلك أخبر عن أمر كائن بخلاف من قال : { قل هو الله أحد } فإنه ليس بمتكلم به بل هو قائل له غير آمر لغيره بالقول ، فالقرآن هو الذكر الذي لا يكون إلا على قصد الذكر لا على قصد الكلام فهو المطلق وغيره قد يكون ذكرا ، وقد لا يكون ، فإن قيل : فإذا قال : { ادخلوها بسلام } وأراد الإخبار ينبغي أن لا يكون قرآنا وذكرا ، نقول : هو في نفسه قرآن ، ومن ذكره على قصد الإخبار ، وأراد الأمر والإذن في الدخول يخرج عن كونه قارئا للقرآن ، وإن كان لا يخرج عن كونه قرآنا ، ولهذا نقول نحن ببطلان صلاته ولو كان قارئا لما بطلت ، وهذا جواب فيه لطف ينبغي أن يتنبه له المطالع لهذا الكتاب ، وذلك من حيث إني فرقت بين أن يقال ليس قول القائل : { ادخلوها بسلام } على قصد الإذن قرآنا ، وبين قوله : ليس القائل { ادخلوها بسلام } على غير قصد بقارئ للقرآن ، وأما الجواب من حيث المعقول فهو أن العبادة على منافاة الشهوة ، والشهوة إما شهوة البطن ، وإما شهوة الفرج في أكثر الأمر ، فإن أحدا لا يخلو عنهما ، وإن لم يشته شيئا آخر من المأكول والمشروب والمنكوح ، لكن شهوة البطن قد لا تبقى شهوة بل تصير حاجة عند الجوع وضرورة عند الخوف ، ولهذا قال تعالى : { ولحم طير مما يشتهون } أي لا يكون لحاجة ولا ضرورة بل لمجرد الشهوة وقد بيناه في هذه السورة ، وأما شهوة الفرج فلا تخرج عن كونها شهوة وإن خرجت تكون في محل الحاجة لا الضرورة ، فلا يعلم أن شهوة الفرج ليست شهوة محضة ، والعبادة فيها منضمة للشهوة ، فلم تخرج شهوة الفرج عن كونها عبادة بدنية قط بل حكم الشارع ببطلان الحج به ، وبطلان الصوم والصلاة ، وأما قضاء شهوة البطن فلما لم يكن شهوة مجردة بطل به الصلاة والصوم دون الحج ، وربما لم تبطل به الصلاة أيضا ، إذا ثبت هذا فنقول : خروج الخارج دليل قضاء الشهوة البطنية ، وخروج المني دليل قضاء الشهوة الفرجية ، فواجب بهما تطهير النفس ، لكن الظاهر والباطن متحاذيان ، فأمر الله تعالى بتطهير الظاهر عند الحدث والإنزال لموافقة الباطن ، والإنسان إذا كان له بصيرة وينظر في تطهير باطنه عند الاغتسال للجنابة ، فإنه يجد خفة ورغبة في الصلاة والذكر ( وهنا تتمة لهذه اللطيفة ) وهي أن قائلا لو قال : لو صح قولك للزم أن يجب الوضوء بالأكل كما يجب بالحدث لأن الأكل قضاء الشهوة ، وهذا كما أن الاغتسال لما وجب بالإنزال ، لكونه دليل قضاء الشهوة ، وكذا بالإيلاج لكونه قضاء بالإيلاج ، فكذلك الإحداث والأكل فنقول : هاهنا سر مكنون وهو ما بيناه أن الأكل قد يكون لحاجة وضرورة فنقول : الأكل لا يعلم كونه للشهوة إلا بعلامة ، فإذا أحدث علم أنه أكل ولا يعلم كونه للشهوة وأما الإيلاج فلا يكون للحاجة ولا يكون للضرورة فهو شهوة كيفما كان ، فناط الشارع إيجاب التطهير بدليلين ( أحدهما ) قوله صلى الله عليه وسلم : « إنما الماء من الماء » فإن الإنزال كالإحداث ، وكما أن الحدث هو الخارج وهو أصل في إيجاب الوضوء ، كذلك ينبغي أن يكون الإنزال الذي هو الخروج هو الأصل في إيجاب الغسل فإن عنده يتبين قضاء الحاجة والشهوة فإن الإنسان بعد الإنزال لا يشتهي الجماع في الظاهر ( وثانيهما ) ما روي عنه صلى الله عليه وسلم : " الوضوء من أكل ما مسته النار " فإن ذلك دليل قضاء الشهوة كما أن خروج الحدث دليله ، وذلك لأن المضطر لا يصبر إلى أن يستوي الطعام بالنار بل يأكل كيفما كان ، فأكل الشيء بعد الطبخ دليل على أنه قاض به الشهوة لا دافع به الضرورة ، ونعود إلى الجواب عن السؤال ونقول : إذا تبين هذا فالشافعي رضي الله عنه قضى بأن شهوة الفرج شهوة محضة ، فلا تجامع العبادة الجنابة ، فلا ينبغي أن يقرأ الجنب القرآن ، والمحدث يجوز له أن يقرأ لأن الحدث ليس يكون عن شهوة محضة .

المسألة التاسعة : قوله : { إلا المطهرون } هم الملائكة طهرهم الله في أول أمرهم وأبقاهم كذلك طول عمرهم ولو كان المراد نفي الحدث لقال : لا يمسه إلا المطهرون أو المطهرون ، بتشديد الطاء والهاء ، والقراءة المشهورة الصحيحة { المطهرون } من التطهير لا من الإطهار ، وعلى هذا يتأيد ما ذكرنا من وجه آخر ، وذلك من حيث إن بعضهم كان يقول : هو من السماء ينزل به الجن ويلقيه عليه كما كانوا يقولون في حق الكهنة فإنهم كانوا يقولون : النبي صلى الله عليه وسلم كاهن ، فقال : لا يمسه الجن وإنما يمسه المطهرون الذين طهروا عن الخبث ، ولا يكونون محلا للإفساد والسفك ، فلا يفسدون ولا يسفكون ، وغيرهم ليس بمطهر على هذا الوجه ، فيكون هذا ردا على القائلين : بكونه مفتريا ، وبكونه شاعرا ، وبكونه مجنونا بمس الجن ، وبكونه كاهنا ، وكل ذلك قولهم والكل رد عليهم بما ذكر الله تعالى هاهنا من أوصاف كتاب الله العزيز .