مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ يُحۡيِۦ وَيُمِيتُۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (2)

ثم قال تعالى : { له ملك السماوات والأرض }

واعلم أن الملك الحق هو الذي يستغني في ذاته ، وفي جميع صفاته عن كل ما عداه ، ويحتاج كل ما عداه إليه في ذواتهم وفي صفاتهم ، والموصوف بهذين الأمرين ليس إلا هو سبحانه . أما أنه مستغن في ذاته وفي جميع صفاته عن كل ما عداه فلأنه لو افتقر في ذاته إلى الغير لكان ممكنا لذاته فكان محدثا ، فلم يكن واجب الوجود ، وأما أنه مستغن في جميع صفاته السلبية والإضافية عن كل ما عداه ، فلأن كل ما يفرض صفة له ، فإما أن تكون هويته سبحانه كافية في تحقق تلك الصفة سواء كانت الصفة سلبا أو إيجابا أو لا تكون كافية في ذلك ، فإن كانت هويته كافية في ذلك من دوام تلك الهوية دوام تلك الصفة سلبا كانت الصفة أو إيجابا ، وإن لم تكن تلك لزم الهوية كافية ، فحينئذ تكون تلك الهوية ممتنعة الانفكاك عن ثبوت تلك الصفة وعن سلبها ، ثم ثبوت تلك الصفة وسلبها ، يكون متوقفا على ثبوت أمر آخر وسلبه ، والموقوف على الموقوف على الشيء موقوف على ذلك الشيء ، فهويته سبحانه تكون موقوفة التحقق على تحقق علة ثبوت تلك الصفة أو علة سلبها ، والموقوف على الغير ممكن لذاته فواجب الوجود لذاته ممكن الوجود لذاته ، وهذا خلف ، فثبت أنه سبحانه غير مفتقر لا في ذاته ، ولا في شيء من صفاته السلبية ولا الثبوتية إلى غيره ، وأما أن كل ما عداه مفتقر إليه فلأن كل ما عداه ممكن ، لأن واجب الوجود لا يكون أكثر من واحد والممكن لا بد له من مؤثر ، ولا واجب إلا هذا الواحد فإذن كل ما عداه فهو مفتقر إليه سواء كان جوهرا أو عرضا ، وسواء كان الجوهر روحانيا أو جسمانيا ، وذهب جمع من العقلاء إلى أن تأثير واجب الوجود في إعطاء الوجود لا في الماهيات فواجب الوجود يجعل السواد موجودا ، أما أنه يستحيل أن يجعل السواد سوادا ، قالوا : لأنه لو كان كون السواد سوادا بالفاعل ، لكان يلزم من فرض عدم ذلك الفاعل أن لا يبقى السواد سوادا وهذا محال ، فيقال لهم يلزمكم على هذا التقدير أن لا يكون الوجود أيضا بالفاعل ، وإلا لزم من فرض عدم ذلك الفاعل أن لا يكون الوجود وجودا ، فإن قالوا : تأثير الفاعل ليس في الوجود بل في جعل الماهية موصوفة بالوجود ، قلنا : هذا مدفوع من وجهين ( الأول ) : أن موصوفية الماهية بالوجود ليس أمرا ثبوتيا ، إذ لو كان أمرا ثبوتيا لكانت له ماهية ووجود ، فحينئذ تكون موصوفية تلك الماهية بالوجود زائدة عليه ولزم التسلسل وهو محال ، وإذا كان موصوفية الماهية بالوجوه ليس أمرا ثبوتيا ، استحال أن يقال : لا تأثير للفاعل في الماهية ولا في الوجود بل تأثيره في موصوفية الماهية بالوجود ( الثاني ) : أن بتقدير أن تكون تلك الموصوفية أمرا ثبوتيا ، استحال أيضا جعلها أثرا للفاعل ، وإلا لزم عند فرض عدم ذلك الفاعل أن تبقى الموصوفية موصوفية ، فظهر أن الشبهة التي ذكروها لو تمت واستقرت يلزم نفي التأثير والمؤثر أصلا ، بل كما أن الماهيات إنما صارت موجودة بتأثير واجب الوجود ، فكذا أيضا الماهيات إنما صارت ماهيات بتأثير واجب الوجود ، وإذا لاحت هذه الحقائق ظهر بالبرهان العقلي صدق قوله تعالى : { له ملك السماوات والأرض } بل ملك السماوات والأرض بالنسبة إلى كمال ملكه أقل من الذرة ، بل لا نسبة له إلى كمال ملكه أصلا ، لأن ملك السماوات والأرض ملك متناه ، وكمال ملكه غير متناه ، والمتناهي لا نسبة له البتة إلى غير المتناهي ، لكنه سبحانه وتعالى ذكر ملك السماوات والأرض لأنه شيء مشاهد محسوس ، وأكثر الخلق عقولهم ضعيفة قلما يمكنهم الترقي من المحسوس إلى المعقول .

ثم إنه سبحانه لما ذكر من دلائل الآفاق ملك السماوات والأرض ذكر بعده دلائل الأنفس فقال : { يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : ذكر المفسرون فيه وجهين ( أحدهما ) : يحيي الأموات للبعث ، ويميت الأحياء في الدنيا ( والثاني ) : قال الزجاج : يحيي النطف فيجعلها أشخاصا عقلاء فاهمين ناطقين ، ويميت وعندي فيه وجه ثالث وهو أنه ليس المراد من تخصيص الإحياء والإماتة بزمان معين وبأشخاص معينين ، بل معناه أنه هو القادر على خلق الحياة والموت ، كما قال في سورة الملك : { الذي خلق الموت والحياة } والمقصود منه كونه سبحانه هو المنفرد بإيجاد هاتين الماهيتين على الإطلاق ، لا يمنعه عنهما مانع ولا يرده عنهما راد ، وحينئذ يدخل فيه الوجهان اللذان ذكرهما المفسرون .

المسألة الثانية : موضع { يحيي ويميت } رفع على معنى هو يحيي ويميت ، ويجوز أن يكون نصبا على معنى : له ملك السماوات والأرض حال كونه محييا ومميتا . واعلم أنه تعالى لما ذكر دلائل الآفاق ( أولا ) : ودلائل الأنفس ( ثانيا ) : ذكر لفظا يتناول الكل فقال : { وهو على كل شيء قدير } وفوائد هذه الآية مذكورة في أول سورة الملك .