مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فِي كِتَٰبٖ مَّكۡنُونٖ} (78)

وقوله تعالى : { في كتاب } جعله شيئا مظروفا بكتاب فما ذلك ؟ نقول فيه وجهان ( أحدهما ) المظروف : القرآن ، أي هو قرآن في كتاب ، كما يقال : فلان رجل كريم في بيته ، لا يشك السامع أن مراد القائل : أنه في الدار قاعد ولا يريد به أنه كريم إذا كان في الدار ، وغير كريم إذا كان خارجا ولا يشك أيضا أنه لا يريد به أنه كريم في بيته ، بل المراد أنه رجل كريم وهو في البيت ، فكذلك هاهنا أن القرآن كريم وهو في كتاب ، أو المظروف كريم على معنى أنه كريم في كتاب ، كما يقال : فلان رجل كريم في نفسه ، فيفهم كل أحد أن القائل لم يجعله رجلا مظروفا فإن القائل : لم يرد أنه رجل في نفسه قاعد أو نائم ، وإنما أراد به أنه كريم كرمه في نفسه ، فكذلك قرآن كريم فالقرآن كريم في اللوح المحفوظ وإن لم يكن كريما عند الكفار ( ثانيهما ) المظروف هو مجموع قوله تعالى : ( قرآن كريم ) أي هو كذا في كتاب كما يقال :

{ وما أدراك ما عليون } في كتاب الله تعالى ، والمراد حينئذ أنه في اللوح المحفوظ نعته مكتوب : { إنه قرآن كريم } والكل صحيح ، والأول أبلغ في التعظيم بالمقروء السماوي .

المسألة الخامسة : ما المراد من الكتاب ؟ نقول فيه وجوه ( الأول ) وهو الأصح أنه اللوح المحفوظ ويدل عليه قوله تعالى : { بل هو قرءان مجيد في لوح محفوظ } ( الثاني ) الكتاب هو المصحف ( الثالث ) كتاب من الكتب المنزلة فهو قرآن في التوراة والإنجيل وغيرهما فإن قيل كيف سمي الكتاب كتابا والكتاب فعال ، وهو إذا كان للواحد فهو إما مصدر كالحساب والقيام وغيرهما ، أو اسم لما يكتب كاللباس واللثام وغيرهما ، فكيفما كان فالقرآن لا يكون في كتاب بمعنى المصدر ، ولا يكون في مكتوب ، وإنما يكون مكتوبا في لوح أو ورق ، فالمكتوب لا يكون في الكتاب ، إنما يكون في القرطاس ، نقول : ما ذكرت من الموازين يدل على أن الكتاب ليس المكتوب ولا هو المكتوب فيه أو المكتوب عليه ، فإن اللثام ما يلثم به ، والصوان ما يصان فيه الثوب ، لكن اللوح لما لم يكن إلا الذي يكتب فيه صح تسميته كتابا .

المسألة السادسة : المكتوب هو المستور قال الله تعالى : { كاللؤلؤ المكنون } ، قال : { بيض مكنون } فإن كان المراد من الكتاب اللوح فهو ليس بمستور وإنما الشيء فيه منشور ، وإن كان المراد هو المصحف فعدم كونه مكتوبا مستورا ، فكيف الجواب عنه ؟ فنقول : المكنون المحفوظ إذا كان غير عزيز يحفظ بالعين ، وهو ظاهر للناس فإذا كان شريفا عزيزا لا يكتفي بالصون والحفظ بالعين بل يستر عن العيون ، ثم كلما تزداد عزته يزداد ستره فتارة يكون مخزونا ثم يجعل مدفونا ، فالستر صار كاللازم للصون البالغ فقال : { مكنون } أي محفوظ غاية الحفظ ، فذكر اللام وأراد الملزوم وهو باب من الكلام الفصيح تقول مثلا : فلان كبريت أحمر ، أي قليل الوجود ( والجواب الثاني ) إن اللوح المحفوظ مستور عن العين لا يطلع عليه إلا ملائكة مخصوصون ، ولا ينظر إليه إلا قوم مطهرون ، وأما القرآن فهو مكتوب مستور أبد الدهر عن أعين المبدلين ، مصون عن أيدي المحرفين ، فإن قيل : فما فائدة كونه { في كتاب } وكل مقروء في كتاب ؟ نقول : هو لتأكيد الرد على الكفار لأنهم كانوا يقولون : إنه مخترع من عنده مفترى ، فلما قال : مقروء عليه اندفع كلامهم ، ثم إنهم قالوا : إن كان مقروءا عليه فهو كلام الجن فقال : { في كتاب } أي لم ينزل به عليه الملك إلا بعدما أخذه من كتاب فهو ليس بكلام الملائكة فضلا أن يكون كلام الجن ، وأما إذا قلنا : إذا كان كريما فهو في كتاب ، ففائدته ظاهرة ، وأما فائدة كونه في كتاب مكنون فيكون ردا على من قال : إنه أساطير الأولين في كتب ظاهرة ، أي فلم لا يطالعها الكفار ، ولم لا يطلعون عليه لا بل هو { في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون } ، فإذا بين فيما ذكرنا أن وصفه بكونه قرآنا صار ردا على من قال : يذكره من عنده ، وقوله : { في كتاب } رد على من قال : يتلوه عليه الجن حيث اعترف بكونه مقروءا ونازع في شيء آخر ، وقوله : { مكنون } رد على من قال : إنه مقروء في كتاب لكنه من أساطير الأولين .