مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱللَّهُ أَنۢبَتَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ نَبَاتٗا} (17)

الدليل الثالث : على التوحيد قوله تعالى :

{ والله أنبتكم من الأرض نباتا ، ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا } .

واعلم أنه تعالى رجع هاهنا إلى دلائل الأنفس وهو كالتفسير لقوله : { خلقكم أطوارا } فإنه بين أنه تعالى خلقهم من الأرض ثم يردهم إليها ثم يخرجهم منها مرة أخرى ، أما قوله : { أنبتكم من الأرض نباتا } ففيه مسألتان :

المسألة الأولى : في هذه الآية وجهان ( أحدهما ) معنى قوله : { أنبتكم من الأرض } أي أنبت أباكم من الأرض كما قال : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب } . ( والثاني ) أنه تعالى أنبت الكل من الأرض لأنه تعالى إنما يخلقنا من النطف وهي متولدة من الأغذية المتولدة من النبات المتولد من الأرض .

المسألة الثانية : كان ينبغي أن يقال : أنبتكم إنباتا إلا أنه لم يقل ذلك بل قال : أنبتكم نباتا ، والتقدير أنبتكم فنبتم نباتا ، وفيه دقيقة ( لطيفة ) وهي أنه لو قال : أنبتكم إنباتا كان المعنى أنبتكم إنباتا عجيبا غريبا ، ولما قال : أنبتكم نباتا كان المعنى أنبتكم فنبتم نباتا عجيبا ، وهذا الثاني أولى لأن الإنبات صفة لله تعالى وصفة الله غير محسوسة لنا ، فلا نعرف أن ذلك الإنبات إنبات عجيب كامل إلا بواسطة إخبار الله تعالى ، وهذا المقام مقام الاستدلال على كمال قدرة الله تعالى فلا يمكن إثباته بالسمع ، أما لما قال : { أنبتكم نباتا } على معنى أنبتكم فنبتم نباتا عجيبا كاملا كان ذلك وصفا للنبات بكونه عجيبا كاملا ، وكون النبات كذلك أمر مشاهد محسوس ، فيمكن الاستدلال به على كمال قدرة الله تعالى ، فكان هذا موافقا لهذا المقام فظهر أن العدول من تلك الحقيقة إلى هذا المجاز كان لهذا السر اللطيف ،