مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّمَن فِيٓ أَيۡدِيكُم مِّنَ ٱلۡأَسۡرَىٰٓ إِن يَعۡلَمِ ٱللَّهُ فِي قُلُوبِكُمۡ خَيۡرٗا يُؤۡتِكُمۡ خَيۡرٗا مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (70)

قوله تعالى : { يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم }

اعلم أن الرسول لما أخذ الفداء من الأسارى وشق عليهم أخذ أموالهم منهم ، ذكر الله هذه الآية استمالة لهم فقال : { يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى } قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في العباس ، وعقيل بن أبي طالب ، ونوفل بن الحرث ، كان العباس أسيرا يوم بدر ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس ، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا الطعام لأهل بدر فلم تبلغه التوبة حتى أسر ، فقال العباس : كنت مسلما إلا أنهم أكرهوني ، فقال عليه السلام : " إن يكن ما تذكره حقا فالله يجزيك " فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا . قال العباس : فكلمت رسول الله أن يرد ذلك الذهب علي ، فقال : «أما شيء خرجت لتستعين به علينا فلا » قال : وكلفني الرسول فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية ، وفداء نوفل بن الحرث ، فقال العباس : تركتني يا محمد أتكفف قريشا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها : لا أدري ما يصيبني ، فإن حدث بي حادث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل » فقال العباس : وما يدريك ؟ قال : «أخبرني به ربي » قال العباس : فأنا أشهد أنك صادق وأن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله ، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ، ولقد دفعته إليها في سواد الليل ، ولقد كنت مرتابا في أمرك ، فأما إذ أخبرتني بذلك فلا ريب . قال العباس : فأبدلني الله خيرا من ذلك ، لي الآن عشرون عبدا ، وإن أدناهم ليضرب في عشرين ألفا ، وأعطاني زمزم ، وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة ، وأنا أنتظر المغفرة من ربي . وروي أنه قدم على رسول الله مال البحرين ثمانون ألفا ، فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه ، وأمر العباس أن يأخذ منه ، فأخذ ما قدر على حمله ، وكان يقول : هذا خير مما أخذ مني ، وأنا أرجو المغفرة . واختلف المفسرون في أن الآية نازلة في العباس خاصة ، أو في جملة الأسارى . قال قوم : إنها في العباس خاصة ، وقال آخرون : إنها نزلت في الكل ، وهذا أولى ، لأن ظاهر الآية يقتضي العموم من ستة أوجه : أحدها : قوله : { قل لمن في أيديكم } وثانيها : قوله : { من الأسرى } وثالثها : قوله : { في قلوبكم } ورابعها : قوله : { يؤتكم خيرا } وخامسها : قوله : { مما أخذ منكم } وسادسها : قوله : { ويغفر لكم } فلما دلت هذه الألفاظ الستة على العموم ، فما الموجب للتخصيص ؟ أقصى ما في الباب أن يقال : سبب نزول الآية هو العباس ، إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

أما قوله : { إن يعلم الله في قلوبكم خيرا } ففيه مسألتان :

المسألة الأولى : يجب أن يكون المراد من هذا الخير : الإيمان والعزم على طاعة الله وطاعة رسوله في جميع التكاليف ، والتوبة عن الكفر وعن جميع المعاصي ، ويدخل فيه العزم على نصرة الرسول ، والتوبة عن محاربته .

المسألة الثانية : احتج هشام بن الحكم على قوله : إنه تعالى لا يعلم الشيء إلا عند حدوثه بهذه الآية ، لأن قوله : { إن يعلم الله في قلوبكم خيرا } فعل كذا وكذا شرط وجزاء ، والشرط هو حصول هذا العلم ، والشرط والجزاء لا يصح وجودهما إلا في المستقبل ، وذلك يوجب حدوث علم الله تعالى .

والجواب : أن ظاهر اللفظ وإن كان يقتضي ما ذكره هشام ، إلا أنه لما دل الدليل على أن علم الله يمتنع أن يكون محدثا وجب أن يقال : ذكر العلم وأراد به المعلوم من حيث إنه يدل حصول العلم على حصول المعلوم .

أما قوله : { يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم } ففيه مسألتان :

المسألة الأولى : قال صاحب «الكشاف » : قرأ الحسن { مما أخذ منكم } على البناء للفاعل .

المسألة الثانية : للمفسرين في هذا الخير أقوال :

القول الأول : المراد : الخلف مما أخذ منهم في الدنيا . قال القاضي : لأنه تعالى عطف عليه أمر الآخرة بقوله : { ويغفر لكم } فما تقدم يجب أن يكون المراد منه منافع الدنيا .

ولقائل أن يقول : إن قوله : { ويغفر لكم } المراد منه إزالة العقاب ، على هذا التقدير : لم يبعد أن يكون المراد من هذا الخير المذكور أيضا الثواب والتفضل في الآخرة .

والقول الثاني : المراد من هذا الخير ثواب الآخرة ، فإن قوله : { ويغفر لكم } المراد منه في الآخرة ، فالخير الذي تقدمه يجب أيضا أن يكون في الدنيا .

والقول الثالث : أنه محمول على الكل .

فإن قيل : إذا حملتم الخير على خيرات الدنيا ، فهل تقولون إن كل من أخلص من الأسارى قد آتاه الله خيرا مما أخذ منه ؟

قلنا : هكذا يجب أن يكون بحكم الآية ، إلا أنا لا نعلم من المخلص بقلبه . حتى يتوجه علينا فيه السؤال ، ولا نعلم أيضا من الذي آتاه الله علما ، وقد علمنا أن قليل الدنيا مع الإيمان أعظم من كثير الدنيا مع الكفر .

ثم قال : { والله غفور رحيم } وهو تأكيد لما مضى ذكره من قوله : { ويغفر لكم } والمعنى : كيف لا يفي بوعده المغفرة وأنه غفور رحيم ؟