مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُۥٓ أَسۡرَىٰ حَتَّىٰ يُثۡخِنَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنۡيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلۡأٓخِرَةَۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (67)

قوله تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم }

واعلم أن المقصود من هذه الآية تعليم حكم آخر من أحكام الغزو والجهاد في حق النبي صلى الله عليه وسلم وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قرأ أبو عمر { وتكون } بالتاء والباقون بالياء ، أما قراءة أبي عمرو بالتاء فعلى لفظ الأسرى ، لأن الأسرى وإن كان المراد به التذكير للرجال فهو مؤنث اللفظ ، وأما القراءة بالياء فلأن الفعل متقدم ، والأسرى مذكرون في المعنى ، وقد وقع الفصل بين الفعل والفاعل وكل واحد من هذه الثلاثة إذا انفرد أوجب تذكير الفعل كقولك جاء الرجال وحضر قبيلتك وحضر القاضي امرأة . فإذا اجتمعت هذه الأشياء كان التذكير أولى . وقال صاحب «الكشاف » : قرئ للنبي صلى الله عليه وسلم على التعريف و{ أسارى } و{ يثخن } بالتشديد .

المسألة الثانية : روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بسبعين أسيرا ، فيهم العباس عمه وعقيل بن أبي طالب فاستشار أبا بكر فيهم فقال : قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم ، وخذ منهم فدية تقوى بها أصحابك ، فقام عمر وقال : كذبوك وأخرجوك فقدمهم واضرب أعناقهم . فإن هؤلاء أئمة الكفر وإن الله أغناك عن الفداء . فمكن عليا من عقيل وحمزة من العباس ومكني من فلان ينسب له فنضرب أعناقهم . فقال عليه الصلاة والسلام : " إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ، وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال { فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم } ومثل عيسى في قوله : { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } ومثلك يا عمر مثل نوح { وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } ومثل موسى حيث قال : { ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم } " ومال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قول أبي بكر . روي أنه قال لعمر يا أبا حفص وذلك أول ما كناه ، تأمرني أن أقتل العباس ، فجعل عمر يقول : ويل لعمر ثكلته أمه ، وروي أن عبد الله بن رواحة أشار بأن تضرم عليهم نار كثيرة الحطب فقال له العباس قطعت رحمك . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لا تخرجوا أحدا منهم إلا بفداء أو بضرب العنق " فقال ابن مسعود : إلا سهيل بن بيضاء ، فإني سمعته يذكر الإسلام . فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد خوفي . ثم قال من بعد : «إلا سهيل بن بيضاء » وعن عبيدة السلماني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للقوم : إن شئتم قتلتموهم ، وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدتهم "

فقالوا : بل نأخذ الفداء فاستشهدوا بأحد . وكان فداء الأسارى عشرين أوقية وفداء العباس أربعين أوقية ، وعن محمد بن سيرين كان فداؤهم مائة أوقية والأوقية أربعون درهما أو ستة دنانير . وروي أنهم أخذوا الفداء نزلت هذه الآية فدخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال : يا رسول الله أخبرني فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد تباكيت ، فقال أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ، ولقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة -لشجرة قريبة منه- ولو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ . هذا هو الكلام في سبب نزول هذه الآية .

المسألة الثالثة : تمسك الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية من وجوه :

الوجه الأول : أن قوله تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى } صريح في أن هذا المعنى منهي عنه ، وممنوع من قبل الله تعالى . ثم إن هذا المعنى قد حصل ، ويدل عليه وجهان : الأول : قوله تعالى بعد هذه الآية : { يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى } الثاني : أن الرواية التي ذكرناها قد دلت على أنه عليه الصلاة والسلام ما قتل أولئك الكفار ، بل أسرهم ، فكان الذنب لازما من هذا الوجه .

الوجه الثاني : أنه تعالى أمر النبي عليه الصلاة والسلام وجميع قومه يوم بدر بقتل الكفار وهو قوله : { فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان } وظاهر الأمر للوجوب ، فلما لم يقتلوا بل أسروا كان الأسر معصية .

الوجه الثالث : أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بأخذ الفداء ، وكان أخذ الفداء معصية ، ويدل عليه وجهان : الأول : قوله تعالى : { تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة } وأجمع المفسرون على أن المراد من عرض الدنيا ههنا هو أخذ الفداء . والثاني : قوله تعالى : { لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم } وأجمعوا على أن المراد بقوله : { أخذتم } ذلك الفداء .

الوجه الرابع : أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر بكيا ، وصرح الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إنما بكى لأجل أنه حكم بأخذ الفداء ، وذلك يدل على أنه مذنب .

الوجه الخامس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إن العذاب قرب نزوله ولو نزل لما نجا منه إلا عمر » وذلك يدل على الذنب ، فهذه جملة وجوه تمسك القوم بهذه الآية .

والجواب عن الوجه الذي ذكروه أولا : أن قوله : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } يدل على أنه كان الأسر مشروعا ، ولكن بشرط سبق الإثخان في الأرض ، والمراد بالإثخان هو القتل والتخويف الشديد ، ولا شك أن الصحابة قتلوا يوم بدر خلقا عظيما ، وليس من شرط الإثخان في الأرض قتل جميع الناس . ثم إنهم بعد القتل الكثير أسروا جماعة ، والآية تدل على أن بعد الإثخان يجوز الأسر فصارت هذه الآية دالة دلالة بينة على أن ذلك الأسر كان جائزا بحكم هذه الآية ، فكيف يمكن التمسك بهذه الآية في أن ذلك الأسر كان ذنبا ومعصية ؟ ويتأكد هذا الكلام بقوله تعالى : { حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء } .

فإن قالوا : فعلى ما شرحتموه دلت الآية على أن ذلك الأسر كان جائزا والإتيان بالجائز المشروع لا يليق ترتيب العقاب عليه ، فلم ذكر الله بعده ما يدل على العقاب ؟ فنقول : الوجه فيه أن الإثخان في الأرض ليس مضبوطا بضابط معلوم معين ، بل المقصود منه إكثار القتل بحيث يوجب وقوع الرعب في قلوب الكافرين ، وأن لا يجترئوا على محاربة المؤمنين ، وبلوغ القتل إلى هذا الحد المعين لا شك أنه يكون مفوضا إلى الاجتهاد ، فلعله غلب على ظن الرسول عليه الصلاة والسلام أن ذلك القدر من القتل الذي تقدم كفى في حصول هذا المقصود ، مع أنه ما كان الأمر كذلك فكان هذا خطأ واقعا في الاجتهاد في صورة ليس فيها نص ، وحسنات الأبرار سيئات المقربين . فحسن ترتيب العقاب على ذكر هذا الكلام لهذا السبب ، مع أن ذلك لا يكون البتة ذنبا ولا معصية .

والجواب عن الوجه الذي ذكروه ثانيا أن نقول : إن ظاهر قوله تعالى : { فاضربوا فوق الأعناق } أن هذا الخطاب إنما كان مع الصحابة لإجماع المسلمين على أنه عليه الصلاة والسلام ما كان مأمورا أن يباشر قتل الكفار بنفسه ، وإذا كان هذا الخطاب مختصا بالصحابة ، فهم لما تركوا القتل وأقدموا على الأسر ، كان الذنب صادرا منهم لا من الرسول صلى الله عليه وسلم . ونقل أن الصحابة لما هزموا الكفار وقتلوا منهم جمعا عظيما والكفار فروا ذهب الصحابة خلفهم وتباعدوا عن الرسول وأسروا أولئك الأقوام ، ولم يعلم الرسول بإقدامهم على الأسر إلا بعد رجوع الصحابة إلى حضرته ، وهو عليه السلام ما أسر وما أمر بالأسر ، فزال هذا السؤال .

فإن قالوا : هب أن الأمر كذلك ، لكنهم لما حملوا الأسارى إلى حضرته فلم لم يأمر بقتلهم امتثالا لقوله تعالى : { فاضربوا فوق الأعناق } .

قلنا : إن قوله : { فاضربوا } تكليف مختص بحالة الحرب عند اشتغال الكفار بالحرب ، فأما بعد انقضاء الحرب فهذا التكليف ما كان متناولا له . والدليل القاطع عليه أنه عليه الصلاة والسلام استشار الصحابة في أنه بماذا يعاملهم ؟ ولو كان ذلك النص متناولا لتلك الحالة ، لكان مع قيام النص القاطع تاركا لحكمه وطالبا ذلك الحكم من مشاورة الصحابة ، وذلك محال ، وأيضا فقوله : { فاضربوا فوق الأعناق } أمر ، والأمر لا يفيد إلا المرة الواحدة ، وثبت بالإجماع أن هذا المعنى كان واجبا حال المحاربة فوجب أن يبقى عديم الدلالة على ما وراء وقت المحاربة ، وهذا الجواب شاف .

والجواب عما ذكروه ثالثا ، وهو قولهم : إنه عليه الصلاة والسلام حكم بأخذ الفداء ، وأخذ الفداء محرم . فنقول : لا نسلم أن أخذ الفداء محرم .

وأما قوله : { تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة } فنقول هذا لا يدل على قولكم ، وبيانه من وجهين : الأول : أن المراد من هذه الآية حصول العتاب على الأسر لغرض أخذ الفداء ، وذلك لا يدل على أن أخذ الفداء محرم مطلقا . الثاني : أن أبا بكر رضي الله عنه قال الأولى : أن نأخذ الفداء لتقوى العسكر به على الجهاد ، وذلك يدل على أنهم إنما طلبوا ذلك الفداء للتقوي به على الدين ، وهذه الآية تدل على ذم من طلب الفداء لمحض عرض الدنيا ولا تعلق لأحد البابين بالثاني . وهذان الجوابان بعينهما هما الجوابان عن تمسكهم بقوله تعالى : { لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم } .

والجواب عما ذكروه رابعا : أن بكاء الرسول عليه الصلاة والسلام يحتمل أن يكون لأجل أن بعض الصحابة لما خالف أمر الله في القتل ، واشتغل بالأسر استوجب العذاب ، فبكى الرسول عليه الصلاة والسلام خوفا من نزول العذاب عليهم ، ويحتمل أيضا ما ذكرناه أنه عليه الصلاة والسلام اجتهد في أن القتل الذي حصل هل بلغ مبلغ الإثخان الذي أمره الله به في قوله : { حتى يثخن في الأرض } ووقع الخطأ في ذلك الاجتهاد ، وحسنات الأبرار سيئات المقربين ، فأقدم على البكاء لأجل هذا المعنى .

والجواب عما ذكروه خامسا : أن ذلك العذاب إنما نزل بسبب أن أولئك الأقوام خالفوا أمر الله بالقتل ، وأقدموا على الأسر حال ما وجب عليهم الاشتغال بالقتل ، فهذا تمام الكلام في هذه المسألة . والله أعلم .

المسألة الرابعة : في شرح الألفاظ المشكلة في هذه الآية .

أما قوله : { ما كان لنبي أن تكون له أسرى } فلقائل أن يقول : كيف حسن إدخال لفظة كان على لفظة تكون في هذه الآية .

والجواب : قوله { ما كان } معناه النفي والتنزيه ، أي ما يجب وما ينبغي أن يكون له المعنى المذكور ونظيره ما كان لله أن يتخذ من ولد قال أبو عبيدة . يقول : لم يكن لنبي ذلك ، فلا يكون لك ، وأما من قرأ { ما كان للنبي } فمعناه : أن هذا الحكم ما كان ينبغي حصوله لهذا النبي ، وهو محمد عليه الصلاة والسلام . قال الزجاج : { أسرى } جمع ، و{ أسارى } جمع الجمع . قال ولا أعلم أحدا قرأ { أسارى } وهي جائزة كما نقلنا عن صاحب «الكشاف » : أنه نقل أن بعضهم قرأ به وقوله : { حتى يثخن في الأرض } فيه بحثان :

البحث الأول : قال الواحدي : الإثخان في كل شيء عبارة عن قوته وشدته ، يقال : قد أثخنه المرض إذا اشتد قوة المرض عليه ، وكذلك أثخنه الجراح ، والثخانة الغلظة فكل شيء غليظ ، فهو ثخين . فقوله : { حتى يثخن في الأرض } معناه حتى يقوى ويشتد ويغلب ويبالغ ويقهر ، ثم إن كثيرا من المفسرين . قالوا المراد منه : أن يبالغ في قتل أعدائه . قالوا وإنما حملنا اللفظ عليه لأن الملك والدولة إنما تقوى وتشتد بالقتل . قال الشاعر :

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى *** حتى يراق على جوانبه الدم

ولأن كثرة القتل توجب قوة الرعب وشدة المهابة ، وذلك يمنع من الجراءة ، ومن الإقدام على ما لا ينبغي ، فلهذا السبب أمر الله تعالى بذلك .

البحث الثاني : أن كلمة { حتى } لانتهاء الغاية . فقوله : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } يدل على أن بعد حصول الإثخان في الأرض له أن يقدم على الأسر .

أما قوله : { تريدون عرض الدنيا } فالمراد الفداء ، وإنما سمى منافع الدنيا ومتاعها عرضا ، لأنه لا ثبات له ولا دوام ، فكأنه يعرض ثم يزول ، ولذلك سمى المتكلمون الأعراض أعراضا ، لأنه لا ثبات لها كثبات الأجسام لأنها تطرأ على الأجسام ، وتزول عنها مع كون الأجسام باقية ، ثم قال : { والله يريد الآخرة } يعني أنه تعالى لا يريد ما يفضي إلى السعادات الدنيوية التي تعرض وتزول وإنما يريد ما يفضي إلى السعادات الأخروية الباقية الدائمة المصونة عن التبديل والزوال . واحتج الجبائي والقاضي بهذه الآية على فساد قول من يقول : لا كائن من العبد إلا والله يريده لأن هذا الأسر وقع منهم على هذا الوجه ، ونص الله على أنه لا يريده بل يريد منهم ما يؤدي إلى ثواب الآخرة وهو الطاعة دون ما يكون فيه عصيان .

وأجاب أهل السنة عنه بأن قالوا : إنه تعالى ما أراد أن يكون هذا الأسر منهم طاعة ، وعملا جائزا مأذونا . ولا يلزم من نفي إرادة كون هذا الأسر طاعة ، نفي كونه مراد الوجود ، وأما الحكماء فإنهم يقولون الشيء مراد بالعرض مكروه بالذات .

ثم قال : { والله عزيز حكيم } والمراد أنكم إن طلبتم الآخرة لم يغلبكم عدوكم لأن الله عزيز لا يقهر ولا يغلب حكيم في تدبير مصالح العالم . قال ابن عباس : هذا الحكم إنما كان يوم بدر ، لأن المسلمين كانوا قليلين ، فلما كثروا وقوي سلطانهم أنزل الله بعد ذلك في الأسارى { حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها } وأقول إن هذا الكلام يوهم أن قوله : { فإما منا بعد وإما فداء } يزيد على حكم الآية التي نحن في تفسيرها ، وليس الأمر كذلك لأن كلتا الآيتين متوافقتان ، فإن كلتاهما يدلان على أنه لا بد من تقديم الإثخان ، ثم بعده أخذ الفداء .