{ وَمَا يَسْتَوِي الاعمى والبصير } أي الغافل عن معرفة الحق في مبدئه ومعاده ومن كانت له بصيرة في معرفتها ، وتفسير { البصير } بالله تعالى و { الاعمى } بالصنم غير مناسب هنا { والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } أي المحسن ولذا قوبل بقوله تعالى : { وَلاَ المسىء } وعدل عن التقابل الظاهر كما في الأعمى والبصير إلى ما في النظم الجليل إشارة إلى أن المؤمنين علم في الإحسان ، وقدم { الاعمى } لمناسبة العمى ما قبله من نفي العلم ، وقدم الذين آمنوا بعد لمجاورة البصير ولشرفهم ، وفي مثله طرق أن يجاور كل ما يناسبه كما هنا ، وأن يقدم ما يقابل الأول ويؤخر ما يقابل الآخر كقوله تعالى : { وَمَا يَسْتَوِى الاعمى والبصير وَلاَ الظلمات وَلاَ النور وَلاَ الظل وَلاَ الحرور } [ فاطر : 19-21 ] وأن يؤخر المتقابلان كالأعمى والأصم والسميع والبصير وكل من باب التفنن في البلاغة وأساليب الكلام ، والمقصود من نفي استواء من ذكر بيان أن هذا التفاوت مما يرشد إلى البعث كأنه قيل : ما يستوي الغافل والمستبصر والمحسن والمسيء فلا بد أن يكون لهم حال أخرى يظر فيها ما بين الفريقين من التفاوت وهي فيما بعد البعث .
وأعيدت { لا } في المسيء تذكيراً للنفي السابق لما بينهما من الفصل بطول الصلة ، ولأن المقصود بالنفي أن الكافر المسيء لا يساوي المؤمن المحسن ، وذكر عدم مساواة الأعمى للبصير توطئة له ، ولو لم يعد النفي فيه فربما ذهل عنه وظن أنه ابتداء كلام ، ولو قيل : ولا الذين آمنوا والمسيء لم يكن نصاً فيه أيضاً لاحتمال أنه مبتدأ كلام ، ولو قيل : ولا الذين آمنوا والمسيء لم يكن نصاً فيه أيضاً لاحتمال أنه مبتدأ و { قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ } خبره وجمع على المعنى قاله الخفاجي ، وهو إن تم فعلى القراءة بياء الغيبة ، وقيل : لم يقل ولا الذين آمنوا والمسيء لأن المقصود نفي مساواة المسيء للمحسن لا نفي مساواة المحسن له إذ المراد بيان خسارته ولا يصفو عن كدر فتدبر ، والموصول مع عطف عليه معطوف على { الاعمى } مع ما عطف عليه عطف المجموع على المجموع كما في قوله تعالى : { هُوَ الاول والاخر والظاهر والباطن } [ الحديد : 2 ] ولم يترك العطف بينهما بناء على أن الأول مشبه به والثاني مشبه وهما متحدان مآلاً لأن كلا من الوصفين الأولين مغاير لكل من الوصفين الأخيرين وتغاير الصفات كتغاير الذوات في صحة التعاطف ، ووجه التغاير أن الغافل والمستبصر والمحسن والمسيء صفات متغايرة المفهوم بقطع النظر عن اتحاد ما صدقهما وعدمه ، وقيل : التغاير بين الوصفين الأولين والوصفين الأخيرين من جهة أن القصد في الأولين إلى العلم ، وفي الأخيرين إلى العمل ، وهو وجه لا بأس به ، وقيل : هما وإن اتحدا ذاتاً متغايران اعتباراً من حيث أن الثاني صريح والأول مذكور على طريق التمثيل ، ونظر فيه بأنه لو اكتفى بمجرد هذه المغايرة لزم جواز عطف المشبه على المشبه به وعكسه .
{ قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ } أي تذكراً قليلاً تتذكرون . وقرأ الجمهور . والأعرج . والحسن . وأبو جعفر . وشيبة بياء الغيبة والضمير للناس أو الكفار ، قال الزمخشري : والتاء أعم ، وعلله «صاحب التقريب » بأن فيه تغليب الخطاب على الغيبة ، وقال القاضي : إن التاء للتغليب أو الالتفات أو أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمخاطبة أي بتقدير قل قبله ، وآثر العلامة الطيبي الالتفات لأن العدول من الغيبة إلى الخطاب في مقام التوبيخ يدل على العنف الشديد والإنكار البليغ ، فهذه الآية متصلة بخلق السماوات وهو كلام مع المجادلين . وتعقبه «صاحب الكشف » بأنه يجوز أن يجعل ما ذكر نكتة التغليب فيكون أولى لفائدة التعميم أيضاً فليفهم ، والظاهر أن التغليب جار على احتمال كون الضمير للناس واحتمال كونه للكفار لأن بعض الناس أو الكفار مخاطب هنا ؛ والتقليل أيضاً يصح إجراؤه على ظاهره لأن منهم من يتذكر ويهتدي ، وقال الجلبي : الضمير إذا كان للناس فالتقليل على معناه الحقيقي والمستثنى هم المؤمنون وإذا كان للكفار فهو بمعنى النفي ، ثم الظاهر أن المخاطب من خاطبه صلى الله عليه وسلم من قريش فمن قال : المخاطب هو النبي عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى : { فاصبر } [ غافر : 55 ] ولا يناسب إدخاله فيمن لم يتذكر فقدسها ولم يتذكر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ضرب مثل المؤمن ومثل الكافر فقال تعالى: {وما يستوي} في الفضل.
{الأعمى} يعني الكافر {والبصير} يعني المؤمن.
{والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء} يعني وما يستوي في الفضل المؤمن المحسن، ولا الكافر المسيء {قليلا ما تتذكرون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وما يستوي الأعمى الذي لا يبصر شيئا، وهو مثل الكافر الذي لا يتأمل حجج الله بعينيه، فيتدبرها ويعتبر بها، فيعلم وحدانيته وقُدرته على خلق ما شاء من شيء، ويؤمن به ويصدّق. والبصير الذي يرى بعينيه ما شخص لهما ويبصره، وذلك مَثل للمؤمن الذي يرى بعينيه حجج الله، فيتفكّر فيها ويتعظ، ويعلم ما دلت عليه من توحيد صانعه، وعظيم سلطانه وقُدرته على خلق ما يشاء يقول جلّ ثناؤه: كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن.
"والّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلوا الصَالحاتِ" يقول جلّ ثناؤه: ولا يستوي أيضا كذلك المؤمنون بالله ورسوله، المطيعون لربهم، "ولا المسيء"، وهو الكافر بربه، العاصي له، المخالف أمره. "قَلِيلاً ما تَتَذَكّرُونَ" يقول جلّ ثناؤه: قليلاً ما تتذكرون أيها الناس حجج الله، فتعتبرون وتتعظون يقول: لو تذكرتم آياته واعتبرتم، لعرفتم خطأ ما أنتم عليه مقيمون من إنكاركم قدرة الله على إحيائه من فني من خلقه من بعد الفناء، وإعادتهم لحياتهم من بعد وفاتهم، وعلمتم قبح شرككم من تشركون في عبادة ربكم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال بعضهم: أراد بقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} حقيقة: أعمى البصر والبصير نفسه؛ يقول: تعرفون أنه لا يستوي الأعمى أعمى البصر والبصير نفسه في الدنيا. فعلى ذلك لا يستوي من عمي عن دينه ومن أبصر في الآخرة. وقد عرفتم أنهم قد استووا في هذه الدنيا؛ أعني المُسيء والمُحسِن، والصالح والمُفسد، والمطيع والعاصي. وفي الحكمة التفريق بينهما. دل أن هناك دارا أخرى يُفرَّق بينهما فيها.
لما بين الله تعالى أن الجدال المقرون بالكبر والحسد والجهل كيف يكون، وأن الجدال المقرون بالحجة والبرهان كيف يكون، نبه تعالى على الفرق بين البابين بذكر المثال فقال: {وما يستوي الأعمى والبصير} يعني وما يستوي المستدل والجاهل المقلد، ثم قال: {والذين ءامنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء} فالمراد بالأول التفاوت بين العالم والجاهل، والمراد بالثاني التفاوت بين الآتي بالأعمال الصالحة وبين الآتي بالأعمال الفاسدة الباطلة.
{قليلا ما تتذكرون} يعني أنهم وإن كانوا يعلمون أن العلم خير من الجهل، وأن العمل الصالح خير من العمل الفاسد، إلا أنه قليلا ما تتذكرون في النوع المعين من الاعتقاد أنه علم أو جهل، والنوع المعين من العمل أنه عمل صالح أو فاسد، فإن الحسد يعمي قلوبهم، فيعتقدون في الجهل والتقليد أنه محض المعرفة، وفي الحسد والحقد والكبر أنه محض الطاعة، فهذا هو المراد من قوله {قليلا ما تتذكرون}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ثبت بهذا القياس الذي لا خفاء به لا دافع له ولا مطعن فيه أن القادر على خلق الكبير ابتداء قادر على تسوية الصغير إعادة، وثبت به أيضاً أن خلق الناس ليس مستنداً إلى طبائع السماوات والأرض وإلا لتساووا في العلم والجهل، والقدر والهيئة والشكل؛ لأن اقتضاء الطبائع لذلك على حد سواء لا تفاوت فيه، وهي لا اختيار لها، وكان من الناس من يقول: إن هذا الإيجاد إنما هو للطبائع، ومن هؤلاء فرعون الذي مضى في هذه السورة كثير من كشف عواره وإظهار عاره، دل على إبطاله بأن ذلك قول يلزمه التساوي فيما نشأ عن ذي الطبع؛ لأن لا اختيار له ونحن نشاهد الأشياء مختلفة، فدل ذلك قطعاً على أنها غير مستندة إلى طبيعة بل إلى فاعل مختار، فكان التقدير بما أرشد إليه سياق الآية قطعاً مع ختمها بنفي العلم وعطف ما بعدها على غير مذكور: وأقلهم يعلمون، فثبت أن خالقهم الذي فاوت بينهم قادر مختار لا شريك له، فإنه ما يستوي العالم والجاهل: {وما يستوي} أي بوجه من الوجوه من حيث البصر {الأعمى والبصير *} وذلك موجب للعلم بأن استناد المتخالفين ليس إلى الطبيعة، بل إلى فاعل مختار.
ولما ذكر الظلام والنور الحسيين، أتبعه المعنويين نشراً مشوشاً ليكشف قسما الظلام قسمي النور إشارة إلى أن المهتدي عزيز الوجود، كالذهب الإبريز بين النقود، فقال: {والذين آمنوا} أي أوجدوا هذه الحقيقة ثبتت أو لا.
{وعملوا الصالحات} كذلك فكانوا محسنين.
{ولا المسيء} أي الثابت الإساءة الذي كفر وعمل الصالحات، ووقع التغاير في العطف؛ لأن المراد -والله أعلم- نفس التساوي بين أفراد الأعمى وأفراد البصير والمحسن والمسيء، ولكنه لما كان في المخاطبين الغبي والذكي، عطف البصير بغير "لا "ليكون ظاهر ذلك نفي المساواة بين نوعي الأعمى والبصير؛ لأن نفي المساواة بين أفراد الأنواع دقيق، واقتصر على الواو في عطف
{الذين آمنو} لأنه لا ينتظم أن يراد جعل الأعمى والبصير فريقاً والمؤمن الموصوف فريقاً، وينتفي التساوي بينهما؛ لأنه لا لبس في أن المؤمنين الموصوفين كالبصير، وليس فيهم من يتوهم مساواته للأعمى، فكان من الجلي معرفة أن المراد نفي مساواة الأعمى للبصير ونفي مساواة المؤمن الموصوف للمسيء، وزيدت "لا" في المسيء وعبر فيه بالإفراد إشارة للفطن إلى أن المراد نفي التساوي بين أفراد كل نوع لأن ذلك أدل على القدرة، وأنها بالاختيار، وهذا بخلاف الظلمات في سورة فاطر لأنه لو تركت "لا" هناك لتوهم متوهم أن المنفي المساواة بين الأعمى والبصير وبين الظلمات، فيوجد حينئذ الطعن بأن الظلمات مساوية لهما باعتبار أن الظلمة منها كثيف جداً لا يمكن نفوذ البصر فيه، ومنها خفيف جداً يكون تسميته ظلاماً بالنسبة إلى النور الساطع، والآية من الاحتباك: ذكر عمل الصالحات أولاً دليلاً على ضدها ثانياً، والمسيء ثانياً دليلاً على المحسنين أولاً، وسره أنه ذكر الصلاح ترغيباً والإساءة ترهيباً.
ولما تقرر هذا على هذا النحو من الوضوح الذي لا مانع للإنسان من فهمه ورسوخه في علمه إلا عدم تذكره لحسه حتى في نفسه قال تعالى: {قليلاً ما يتذكرون} أي المجادلون أو أيها المجادلون أو الناس لأن المتذكر غاية التذكر -بما دل عليه الإظهار- منكم قليل -على قراءة الكوفيين بالخطاب لأنه أقوى في التبكيت، وأدل على الغضب.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
ضرب لها مثل الأعمى والبصير، ليستبين ذلك الفارق على أتم وجه أعظم تفصيل، فما الأمثال إلا وسائل للإيضاح تبين للناس المعقولات وهي لابسة ثوب المحسوسات فيتضح ما أنبهم منها وخفي من أمرها كما قال: (وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ((الحشر: 21)...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فالبصير يرى ويعلم ويعرف قدره وقيمته ولا يتطاول ولا ينتفخ ولا يتكبر لأنه يرى ويبصر. والأعمى لا يرى ولا يعرف مكانه، ولا نسبته إلى ما حوله، فيخطئ تقدير نفسه وتقدير ما يحيط به، ويتخبط هنا وهنالك من سوء التقدير.. وكذلك لا يستوي الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمسيء. إن أولئك أبصروا وعرفوا فهم يحسنون التقدير.
وهذا عمي وجهل فهو يسيء.. يسيء كل شيء. يسيء إلى نفسه، ويسيء إلى الناس. ويسيء قبل كل شيء إدراك قيمته وقيمة ما حوله. ويخطىء في قياس نفسه إلى ما حوله. فهو أعمى.. والعمى عمى القلوب!
(قليلاً ما تتذكرون).. ولو تذكرنا لعرفنا. فالأمر واضح قريب. لا يحتاج إلى أكثر من التذكر والتذكير..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
نفيُ الاستواء بينهما يقتضي تفضيل أحدهما على الآخر، ومن المتبادر أن الأفضل هو صاحب الحال الأفضل وهو البصير؛ إذ لا يختلف الناس في أن البصَر أشرف من العمى في شخص واحد، ونفي الاستواء بدون متعلِّق يقتضي العموم في متعلقاته، لكنه يُخص بالمُتعلِّقات التي يدل عليها سياق الكلام وهي آيات الله ودلائل صفاته، ويسمى مثل هذا العموم العمومَ العرفي.
{والذينَ ءامنوا وعَمِلُوا الصَّالحاتِ ولا المُسِيء} زيادة بيان لفضيلة أهل الإِيمان بذكر فضيلتهم في أعمالهم بعد ذكر فضلهم في إدراك أدلة إمكان البعث ونحوه من أدلة الإِيمان. والمعنى: وما يستوي الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمسيئون، أي في أعمالهم كما يؤذن بذلك قوله: {وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا المُسِيء}، وفيه إيماء إلى اختلاف جزاء الفريقين، وهذا الإِيماء إدماج للتنبيه على الثواب والعقاب. والواو في قوله: {والذين ءامنوا} عاطفةٌ الجملةَ على الجملة بتقدير: وما يستوي الذين آمنوا والواو في قوله: {ولا المُسِيء} عاطفة {المسيء} على {الذين آمنوا} عطفَ المفرد على المفرد، فالعطف الأول عطف المجموع مثل قوله تعالى: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن} [الحديد: 3]. وإنما قدم ذكر الأعمى على ذكر البصير مع أن البصر أشرف من العمى بالنسبة لذات واحدة، والمشبهَ بالبصير أشرفُ من المشبه بالأعمى إذ المشبه بالبصير المؤمنون، فقدم ذكر تشبيه الكافرين مراعاة لكون الأهمّ في المقام بيانَ حال الذين يجادلون في الآيات إذ هم المقصود بالموعظة.
وأما قوله: {والذين ءامنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ ولا المُسِيء} فإنما رتب فيه ذكر الفريقين على عكس ترتيبه في التشبيه بالأعمى والبصير اهتماماً بشرف المؤمنين. وأعيدت (لا) النافية بعد واو العطف على النفي، وكان العطف مغنياً عنها فإعادتها لإِفادة تأكيد نفي المساواة ومقام التوبيخ يقتضي الإِطناب، ولذلك تُعدّ
(لا) في مثله زائدة كما في « مغني اللبيب»، وكان الظاهر أن تقع (لا) قبل (الذين آمنوا)، فعدل عن ذلك للتنبيه على أن المقصود عدم مساواة المسيء لمن عَمِل الصالحات، وأن ذكر الذين آمنوا قبل المسيء للاهتمام بالذين آمنوا ولا مُقتضي للعدول عنه بعد أن قُضي حق الاهتمام بالذين سبق الكلام لأجل تمثيلهم، فحصل في الكلام اهتمامان.
و (ما) في قوله: {مَّا يَتَذَكَّرون} مصدرية وهي في محل رفع على الفاعلية. وهذا مؤكد لمعنى قوله: {ولكنَّ أكثر النَّاس لا يعْلَمُون} لأن قلة التذكر تؤول إلى عدم العلم، والقلةُ هنا كناية عن العدم وهو استعمال كثير، كقوله تعالى: {فقليلاً ما يؤمنون} [البقرة: 88]، ويجوز أن تكون على صريح معناها ويكون المراد بالقلة عدم التمام، أي لا يعلمون فإذا تذكروا تذكروا تذكراً لا يتممونه فينقطعون في أثنائه عن التعمّق إلى استنباط الدلالة منه فهو كالعدم في عدم ترتب أثره عليه.
نعم لا يستوي مَنْ يهمل آيات الله ولا يتأملها مع مَنْ يفكر فيها ويستنبط منها ويهتدي بها، فالذي لا يتفكر في هذه الآيات مثل الأعمى لأنه لا يتنبه لآيات الكون التي هي أكبر من خَلْق الناس، وإذا كانت هذه الآيات الكونية أكبر في الخَلْق وأعظم من خلق الناس، فكيف تغفل عنها، ومنها يمكن أن تأخذ الدليل على وجود واجب الوجود الأعلى سبحانه، وعلى طلاقة قدرته وإبداع صنعته.
وكما أنه لا يستوي الأعمى والبصير، كذلك لا يستوي عند الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات مع المسيء، وهذا مظهر من مظاهر عَدْله سبحانه: {قَلِيـلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ} يعني: قليلٌ منكم مَنْ يتذكر ذلك.