السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ وَلَا ٱلۡمُسِيٓءُۚ قَلِيلٗا مَّا تَتَذَكَّرُونَ} (58)

ثم لما بين تعالى أن الجدال المقرون بالكبر والحسد والجهل كيف يكون وإن الجدال بالحجة والبرهان كيف يكون نبه تعالى على الفرق بين البيانين بذكر مثال فقال تعالى : { وما يستوي } أي : بوجه من الوجوه من حيث البصر { الأعمى والبصير } أي : وما يستوي المستدل والجاهل المقلد { والذين آمنوا } أي : أوجدوا حقيقة الإيمان { وعملوا الصالحات } أي : تحقيقاً لإيمانهم { ولا المسيء } أي : وما يستوي المحسن والمسيء فلا زائدة للتوكيد لأنه لما طال الكلام بالصلة بعد قسم المؤمنين أعاد معه لا توكيداً ، والمراد بالأول : التفاوت بين العالم والجاهل ، وبالثاني : التفاوت بين الآتي بالأعمال الصالحة وبين الآتي بالأعمال السيئة الباطلة .

ولما تقرر هذا على هذا النحو من الوضوح الذي لا مانع للإنسان من فهمه ورسوخه قال تعالى : { قليلاً ما يتذكرون } أي : يتعظ المجادلون وإن كانوا يعلمون أن العلم خير من الجهل وأن العمل الصالح خير من العمل الفاسد إلا أنه قليلاً ما يتذكرون ، فبين في النوع الأول المعنى من الاعتقاد أنه علم أو جهل وفي النوع الثاني المعنى من العمل أنه عمل صالح أو فاسد .

تنبيه : التقابل يأتي على ثلاث طرق ؛ إحداها : أن يجاور المناسب ما يناسبه كهذه الآية . والثانية : أن يتأخر المتقابلان كقوله تعالى : { مثل الفريقين } كالأعمى والأصم والبصير والسميع . الثالثة : أن يقدم مقابل الأول ويؤخر مقابل الآخر كقوله تعالى : { وما يستوي الأعمى والبصير ( 19 ) ولا الظلمات ولا النور } ( فاطر : 19 20 )

كل ذلك تفنن في البلاغة ، وقدم الأعمى في نفي التساوي لمجيئه بعد صفة الذم في قوله : { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } وقرأ الكوفيون بالتاء على تغليب المخاطب أو الالتفات للمذكورين بعد الإخبار عنهم ، أو أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمخاطبة ، والباقون بياء الغيبة نظراً لقوله تعالى : { إن الذين يجادلون } وهم الذين التفت إليهم في قراءة الخطاب .