روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمۡ لِمَ شَهِدتُّمۡ عَلَيۡنَاۖ قَالُوٓاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِيٓ أَنطَقَ كُلَّ شَيۡءٖۚ وَهُوَ خَلَقَكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (21)

{ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا } فإن ما تشهد به من الزنا أعظم جناية وقبحاً واجلب للخزي والعقوبة مما يشهد به السمع والأبصار من الجنايات المكتسبة بتوسطهما وفيه نظر ولعل إرادة فالظاهر أولى ، ولعل تخصيص السؤال بالجلود لأنها بمرأى منهم بخلاف السمع والبصر أو لأنها هي مدركة العذاب بالقوة المودعة فيها كما يشعر به قوله تعالى : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب } [ النساء : 65 ] قاله الجلبي ، ثم نقل عن العلامة الثاني في ذلك أن الشهادة من الجلود أعجب وأبعد إذ ليس شأنها الإدراك بخلاف السمع والبصر ، وتعقبه بقوله : فيه نظر فإن الجلد محل القوة اللامسة التي هي أهم الحواس للحيوان كما أن السمع والبصر محل السامعة والباصرة والذي ينطق الأعيان دون الأعراض ثم إن اللامسة تشتمل على الذائقة التي هي الأهم بعد اللامسة ، ثم قال : ويلوح مما قررناه وجه آخر للتخصيص فإن الأهمية للإنسان والاشتمال على أهم من غيرها يصلح أن يكون مخصصاً ، فانقلاب ما يرجون منه أكمل النفع أعجب ومثله أحق بالتوبيخ من غيره . واعترض عليه بأن رده على العلامة لم يصادف محزه إذ ليس المراد مما ذكره من أنها ليس من شأنها الإدراك إلا إدراك أنواع المعاصي التي يشهد عليها كالكفر والكذب والقتل والزنا مثلاً وإدراك مثلها منحصر في السمع والبصر .

وأنت تعلم بعد طي كشح البحث في هذا الجواب أن ما ذكره العلامة لا يناسب ظاهر السؤال أعني { لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا } وأولى ما قيل من أوجه التخصيص : أن المدافعة عن الجلود أزيد من المدافعة عن السمع والبصر فإن جلد الإنسان الواحد لو جزىء لزاد على ألف سمع وبصر وهو يدافع عن كل جزء ويحذر أن يصيبه ما يشينه فكانت الشهادة من الجلود عليهم أعجب وأبعد عن الوقوع .

وفي الحديث «إن أول ما ينطق من الإنسان فخذه اليسرى ثم تنطق الجوارح فيقول : تباً لك فعنك كنت أدافع » ، ووجه إفراد السمع قد مر أول التفسير ، ووجه الاقتصار على السمع والبصر والجلد أشار إليه أبو حيان قال : لما كانت الحواس خمسة السمع والبصر والشم والذوق واللمس وكان الذوق مندرجاً في اللمس إذ بمماسة جلد اللسان الرطب للمذوق يحصل إدراك طعم المذوق وكان حس الشم ليس فيه تكليف لا أمر ولا نهي وهو ضعيف اقتصر من الحواس على السمع والبصر واللمس ، وللبحث فيه مجال . وكأني بك تختار أن المراد بالجلود ما سوى السمع والأبصار وأن ذكر السمع لما أنه وسيلة إدراك أكثر الآيات التنزيلية وذكر الأبصار لما أنها وسيلة إدراك أكثر الآيات التكوينية .

/ وقد أشير إلى كل في قوله تعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فهديناهم } [ فصلت : 17 ] على وجه ، وأن شهادتهما فيما يتعلق بالكفر ، فيشهد السمع عليهم أنهم كذبوا بالآيات التنزيلية التي جاء بها الرسل وسمعوها منهم ، والأبصار أنهم لم يعبئوا بالآيات التكوينية التي أبصروها وكفروا بما تدل عليه ، ولعل شهادة الجلود فيما يتعلق بما سوى الكفر من المعاصي التي نهى عنها الرسل عليهم السلام كالزنا مثلاً ، وجوز أن تكون شهادة السمع بإدراك الآيات التنزيلية والأبصار بإدراك الآيات التكوينية والجلود بالكفر بما يقتضيه كل وبالمعاصي الأخر ، ولا بعد في شمول { مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ فصلت : 20 ] لإدراك الآيات والإحساس بها بقسميها فتدبر .

ولعل قوله تعالى : { لِمَ شَهِدتُّمْ } سؤال عن العلة الموجبة ، وصيغة جمع العقلاء في { شَهِدتُّمْ } وما بعد مع أن المراد منه ليس من ذوي العقول لوقوع ذلك في موقع السؤال والجواب المختصين بالعقلاء . وقرأ زيد بن علي { لَمْ } بضمير المؤنثات { عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا الله الذى أَنطَقَ كُلَّ شَىْء } أي أنطقنا الله تعالى وأقدرنا على بيان الواقع فشهدنا عليكم بما عملتم من القبائح وما كتمنا ، وحيث كان معنى السؤال لأي علة موجبة شهدتم ؟ صلح ما ذكر جواباً له ، وقيل : لا قصد هنا للسؤال أصلاً وإنما القصد إلى التعجب ابتداءً لأن التعجب يكون فيما لا يعلم سببه وعلته فالسؤال عن العلة المستلزم لعدم معرفتها جعل مجازاً أو كناية عن التعجب ، فقد قيل : إذا ظهر السبب بطل العجب فكأنه قيل : ليس نطقنا بعجب من قدرة الله تعالى الذي أنطق كل شيء ؛ وأياً ما كان فالنطق على معناه الحقيقي كما هو الظاهر وكذا الشهادة ، ولا يقال : الشاهد أنفسهم والسمع والأبصار والجلود آلات كاللسان فما معنى { شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا } لأنه يقال : ليس المراد هذا النوع من النطق الذي يسند حقيقة إلى جملة الشخص ويكون غيره آلة بلا قدرة وإرادة له في نفسه حتى لو أسند إليه كان مجازاً كإسناد الكتابة إلى القلم بل هو نطق يسند إلى العضو حقيقة فيكون نفسه ناطقاً بقدرة وإرادة خلقهما الله تعالى فيه كما ينطق الشخص بالآلة ، وكيف لا وأنفسهم كارهة لذلك منكرة له ، وقيل : الناطق هم بتلك الأعضاء إلا أنهم لا يقدرون على دفع كونها آلات ولذا نسبت الشهادة عليهم إليها وليس بشيء ، وجوز بعضهم أن يكون النطق مجازاً عن الدلالة فالمراد بالشهادة ظهور علامات على الأعضاء دالة على ما كانت ملتبسة به في الدنيا بتغيير أشكالها ونحوه مما يلهم الله تعالى من رآه أنها تلبست به في الدنيا لارتفاع الغطاء في الآخرة ، وهو خلاف ظاهر الآيات والأحاديث ولا داعي إليه ، وعلى الظاهر لا بد من تخصيص { كُلّ شَىْء } بكل حي نطق إذ ليس كل شيء ولا كل حي ينطق بالنطق الحقيقي ومثل هذا التخصيص شائع ، ومنه ما قيل في { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } [ البقرة : 284 ] و { تُدَمّرُ كُلَّ شَىْء } [ الأحقاف : 5 ] ، وجوز أن يكون النطق في { أَنطَقَنَا } بمعناه الحقيقي ويحمل النطق في { أَنطَقَ كُلَّ شَىْء } على الدلالة فيبقى العام على عمومه ولا يحتاج إلى التخصيص المذكور ويكون التعبير بالنطق للمشاكلة وهو خلاف الظاهر ، والموصول المشعر بالعلية يأباه إباءً ظاهراً ، وقوله تعالى : { وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } يحتمل أن يكون من تمام كلام الجلود ومقول القول ويحتمل أن يكون مستأنفاً من كلامه عز وجل والأول أظهر ، والمراد على كل حال تقرير ما قبله بأن القادر على الخلق أول مرة قادر على الإنطاق ، وصيغة المضارع إذا كان الخطاب يوم القيامة مع أن الرجع فيه متحقق لا مستقبل لما أن المراد بالرجع ليس مجرد الرد إلى الحياة بالبعث بل ما يعمه وما يترتب عليه من العذاب الخالد المترقب عند التخاطب على تغليب المتوقع على الواقع ، وجوز أن تكون لاستحضار الصورة مع ما في ذلك من مراعاة الفواصل

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمۡ لِمَ شَهِدتُّمۡ عَلَيۡنَاۖ قَالُوٓاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِيٓ أَنطَقَ كُلَّ شَيۡءٖۚ وَهُوَ خَلَقَكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (21)

فإذا شهدت عليهم عاتبوها ، { وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ } هذا دليل عل أن الشهادة تقع من كل عضو كما ذكرنا : { لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا } ونحن ندافع عنكن ؟ { قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } فليس في إمكاننا ، الامتناع عن الشهادة حين أنطقنا الذي لا يستعصي عن مشيئته أحد .

{ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } فكما خلقكم بذواتكم ، وأجسامكم ، خلق أيضا صفاتكم ، ومن ذلك ، الإنطاق . { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } في الآخرة ، فيجزيكم بما عملتم ، ويحتمل أن المراد بذلك ، الاستدلال على البعث بالخلق الأول ، كما هو طريقة القرآن .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمۡ لِمَ شَهِدتُّمۡ عَلَيۡنَاۖ قَالُوٓاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِيٓ أَنطَقَ كُلَّ شَيۡءٖۚ وَهُوَ خَلَقَكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (21)

قوله تعالى : { وقالوا } يعني الكفار الذين يحشرون إلى النار ، { لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } تم الكلام هاهنا . وقال الله تعالى : { وهو خلقكم أول مرة } وليس هذا من جواب الجلود . { وإليه ترجعون* }

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمۡ لِمَ شَهِدتُّمۡ عَلَيۡنَاۖ قَالُوٓاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِيٓ أَنطَقَ كُلَّ شَيۡءٖۚ وَهُوَ خَلَقَكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (21)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

فلما شهدت عليهم الجوارح {وقالوا لجلودهم} قالت الألسن للجوارح: {لم شهدتم علينا}، يعني الجوارح، قالوا: أبعدكم الله، إنما كنا نجاحش عنكم، فلم شهدتم علينا بالشرك، ولم تكونوا تتكلمون في الدنيا.

{قالوا} قالت الجوارح للألسن: {أنطقنا الله} اليوم {الذي أنطق كل شيء}.

{وهو خلقكم أول مرة} يعني هو أنطقكم أول مرة من قبلها في الدنيا، قبل أن ننطق نحن اليوم.

{وإليه ترجعون}: إلى الله تردون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم في التقديم.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء الذين يحشرون إلى النار من أعداء الله سبحانه لجلودهم إذ شهدت عليهم بما كانوا في الدنيا يعملون: لم شهدتم علينا بما كنا نعمل في الدنيا؟ فأجابتهم جلودهم:"أنْطَقَنا اللّهَ الّذِي أَنْطَقَ كُلّ شَيْءٍ" فنطقنا، وذُكر أن هذه الجوارح تشهد على أهلها عند استشهاد الله إياها عليهم إذا هم أنكروا الأفعال التي كانوا فعلوها في الدنيا بما يسخط الله، وبذلك جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر الأخبار التي رُويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حدثنا أحمد بن حازم الغفاريّ، قال: أخبرنا عليّ بن قادم الفزاري، قال: أخبرنا شريك، عن عبيد المُكْتِب، عن الشعبيّ، عن أنس، قال: ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم حتى بدت نواجذه، ثم قال: «ألا تَسْأَلُونِي ممّ ضَحِكْتُ؟» قالوا: ممّ ضحكت يا رسول الله؟ قال: «عَجِبْتُ مِنْ مُجَادَلَةِ العَبْدِ رَبّهُ يَوْمَ القِيامَةِ قال: يقُولُ: يا رَبّ ألَيْسَ وَعَدْتَنِي أنْ لا تَظْلِمَنِي؟ قالَ: فإنّ لَكَ ذلكَ، قال: فإنّي لا أقْبَلُ عَليّ شاهِدا إلاّ مِنْ نَفْسِي، قالَ: أوَلَيْس كَفَى بِي شَهِيدا، وَبالمَلائِكَةِ الكِرَامِ الكاتبين؟ قالَ فَيُخْتَمُ عَلى فِيهِ، وَتَتَكَلّمُ أرْكانُهُ بِمَا كانَ يَعْمَلُ، قالَ: فَيَقُولُ لَهُنّ: بُعْدا لَكُنّ وسُحْقا، عَنْكُنّ كُنْتُ أُجادِلُ»...

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن بَهْز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مالي أُمْسِكُ بحَجزِكُمْ مِنَ النّارِ؟ ألا إن رَبّي داعيّ وإنّهُ سائلي هَلْ بَلّغْتُ عِبادَهُ؟ وإنّي قائِلٌ: رَبّ قَدْ بَلّغْتُهُمْ، فَيُبَلّغ شاهِدُكُمْ غائِبَكُمْ، ثُمّ إنّكُمْ مُدّعُونَ مُقَدّمَةً أفْوَاهُكُمْ بالفِدامِ، ثُمّ إنّ أوّلَ ما يُبِينُ عَنْ أحْدِكَمْ لَفَخِذُهُ وكَفّهُ»...

وقوله: "وَهُوَ خَلَقَكُمْ أوّلَ مَرّةٍ "يقول تعالى ذكره: والله خلقكم الخلق الأوّل ولم تكونوا شيئا، "وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ" يقول: وإليه مصيركم من بعد مماتكم.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

... والمعنى: أن نطقنا ليس بعجب من قدرة الله الذي قدر على إنطاق كل حيوان، وعلى خلقكم وإنشائكم أوّل مرّة، وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه -وإنما قالوا لهم: {لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} لما تعاظمهم من شهادتها وكبر عليهم من الافتضاح على ألسنة جوارحهم.

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

" وقالوا "يعني الكفار "لجلودهم لم شهدتم علينا "وإنما كنا نجادل عنكم" قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء "لما خاطبت وخوطبت أجريت مجرى من يعقل.

قيل:"وهو خلقكم أول مرة "ابتداء كلام من الله.

" وإليه ترجعون" وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله فضحك فقال: (هل تدرون مم أضحك) قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: (من مخاطبة العبد ربه يقول يا رب ألم تجزني من الظلم قال: يقول بلى قال فيقول فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني. قال: يقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا قال: فيختم على فيه فيقال لأركانه انطقي فتنطق بأعماله قال: ثم يخلي بينه وبين الكلام قال: فيقول بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل) وفي حديث أبي هريرة ثم يقال: (الآن نبعث شاهدنا عليك ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق، وذلك الذي سخط الله عليه) خرجه أيضا مسلم.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{قالوا} معتذرين: {أنطقنا} قهراً {الله} الذي له مجامع العز على وجه لم نقدر على التخلف عنه. ولما كان حال الكفار دائماً دائراً بين غباوة وعناد، أقاموا لهم على ذلك دليلين شهوديين فقالوا {الذي أنطق كل شيء} أي فعلاً أو قوة أو حالاً ومقالاً.

ولما كانت الأشياء كلها متساوية الأقدام في الإنطاق والإخراس وغيرهما من كل ما يمكن بالنسبة إلى قدرته سبحانه، نبهوهم على ذلك بقولهم: {وهو خلقكم أول مرة} والعلم القطعي حاصل عندكم بأنكم كنتم عدماً ثم نطفاً لا تقبل النطق في مجاري العادات بوجه، ثم طوركم في أدوار الأطوار كذلك إلى أن أوصلكم إلى حيز الإدراك، فقسركم على النطق بحيث لو أردتم سلبه عن أنفسكم ما قدرتم. ولما كان الخلق شيئاً واحداً فعبر عنه بالماضي وكان الرجوع تارة بالحس وتارة بالمعنى وكان الذي بالمعنى كثير التعدد بكثرة التجدد قال: {وإليه} أي لا إلى غيره {ترجعون} أي في كل حين بقسركم بأيسر أمر على كل ما يريد من أول ما خلقتم إلى ما لا نهاية له، فلو كان لكم نوع علم لكفاكم ذلك واعظاً في الدنيا تعلمون به أنكم في غاية العجز، وأن له العظمة والكبر والقدرة والقهر.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

إنها المفاجأة الهائلة في الموقف العصيب. وسلطان الله الذي تطيعه جوارحهم وتستجيب. وهم يوصمون بأنهم أعداء الله. فما مصير أعداء الله؟ إنهم يحشرون ويجمع أولهم على آخرهم وآخرهم على أولهم كالقطيع! إلى أين؟ إلى النار! حتى إذا كانوا حيالها وقام الحساب، إذا شهود عليهم لم يكونوا لهم في حساب. إن ألسنتهم معقودة لا تنطق، وقد كانت تكذب وتفتري وتستهزئ. وإن أسماعهم وأبصارهم وجلودهم تخرج عليهم، لتستجيب لربها طائعة مستسلمة، تروي عنهم ما حسبوه سراً. فقد يستترون من الله. ويظنون أنه لا يراهم وهم يتخفون بنواياهم، ويتخفون بجرائمهم. ولم يكونوا ليستخفوا من أبصارهم وأسماعهم وجلودهم. وكيف وهي معهم؟ بل كيف وهي أبعاضهم؟! وها هي ذي تفضح ما حسبوه مستوراً عن الخلق أجمعين. وعن الله رب العالمين!

يا للمفاجأة بسلطان الله الخفي، يغلبهم على أبعاضهم فتلبي وتستجيب!

(وقالوا لجلودهم: لم شهدتم علينا؟)..

فإذا هي تجبههم بالحقيقة التي خفيت عليهم في غير مواربة ولا مجاملة:

(قالوا: أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء)؟

أليس هو الذي جعل الألسنة هي الناطقة؟ وإنه لقادر على أن يجعل سواها. وقد أنطق كل شيء فهو اليوم يتحدث وينطق ويبين.

(وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون)..

فإليه المنشأ وإليه المصير، ولا مفر من قبضته في الأول وفي الأخير.

وهذا ما أنكروه بالعقول. وهذا ما تقرره لهم الجلود!