محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمۡ لِمَ شَهِدتُّمۡ عَلَيۡنَاۖ قَالُوٓاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِيٓ أَنطَقَ كُلَّ شَيۡءٖۚ وَهُوَ خَلَقَكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (21)

{ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } .

{ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ } أي المدركة ألم العذاب الذي لا يدركه السمع والبصر { لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا } أي بما يوجب إيلامكم { قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ } أي بهذه الشهادة { الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } أي أنطق كل شيء من الحيوان . فهو من العامّ الذي خصه العقل ، كقوله تعالى {[6417]} : { والله على كل شيء قدير } أي كل شيء من المقدورات . هذا ، على أن النطق على ظاهره وحقيقته . وقيل المراد ظهور علامات على الأعضاء دالة على ما كانت متلبسة به في الدنيا ، بتغير أشكالها ونحوه . مما يلهم الله من رآه أنه صدر عنه ذلك ، لارتفاع الغطاء في الآخرة . فالنطق مجاز / عن الدلالة . قال القاشانيّ : معنى { شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم } أي غيرت صور أعضائهم ، وصورت أشكالها على هيئة الأعمال التي ارتكبوها ، وبدلت جلودهم وأبشارهم فتنطق بلسان الحال ، وتدل بالأشكال على ما كانوا يعملون . ولنطقها بهذا اللسان قالت { أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } إذ لا يخلو شيء ما من النطق . ولكن الغافلين لا يفهمون . انتهى . لكن قال الرازيّ : تفسير هذه الشهادة ، بظهور أمارات مخصوصة على هذه الأعضاء ، دالة على صدور تلك الأعمال منهم ، عدول عن الحقيقة إلى المجاز . والأصل عدمه .

ثم قال : وهذه الآية يحسن التمسك بها في بيان أن البينة ليست شرطا للحياة ، ولا لشيء من الصفات المشروطة بالحياة . فالله تعالى قادر على خلق العقل والقدرة والنطق في كل جزء من أجزاء هذه الأعضاء ، والله أعلم .

تنبيه :

قال الرازيّ : نقل عن ابن عباس أنه قال : المراد من شهادة الجلود شهادة الفروج ، وإنه من باب الكنايات كما قال{[6418]} : { ولكن لا تواعدوهن سرا } وأراد النكاح . وقال {[6419]} : { أو جاء أحد منكم من الغائط } والمراد قضاء الحاجة . فتكون الآية وعيدا شديدا في الزنا . انتهى .

وقد أشار الإمام ابن الأثير في ( المثل السائر ) إلى ترجيح هذا المعنى . حيث ذكر هذه الآية في الترجيح الذي يقع بين معنيين ، يدل عليهما لفظ واحد ، يكون حقيقة في أحدهما ، مجازا في الآخر . وعبارته : الجلود هاهنا تفسّر حقيقة ومجازا . وأما الحقيقة فيراد بها الجلود مطلقا ، وأما المجاز فيراد بها الفروج خاصة . وهذا هو المانع البلاغيّ الذي يرجح جانب المجاز على الحقيقة ، لما فيه من لطف الكناية عن المكنى عنه . وقد يسأل هاهنا في الترجيح بين الحقيقة والمجاز ، عن غير الجانب البلاغيّ . / ويقال : ما بيان هذا الترجيح ؟ فيقال : طريقه لفظ الجلود عامّ ، فلا يخلو إما أن يراد به الجلود مطلقا ، أو يراد به الجوارح التي هي أدوات الأعمال خاصة . ولا يجوز أن يراد به الجلود على الإطلاق ، لأن شهادة غير الجوارح التي هي الفاعلة ، شهادة باطلة . إذ هي شهادة غير شاهد . والشهادة هنا يراد بها الإقرار . فتقول اليد : أنا فعلت كذا وكذا . وتقول الرجل : أنا مشيت كذا وكذا . وكذلك الجوارح الباقية تنطق مقرّة بأعمالها . فترجح بهذا أن يكون المراد به شهادة الجوارح . وإذا أريد به الجوارح ، فلا يخلوا إما أن يراد به الكل أو البعض . فإن أريد به الكل ، دخل تحته السمع والبصر . ولم يكن لتخصيصهما بالذكر فائدة . وإن أريد به البعض ، فهو بالفرج أخص منه بغيره من الجوارح ، لأمرين : أحدهما-أن الجوارح كلها قد ذكرت في القرآن الكريم شاهدة على صاحبها بالمعصية ما عدا الفرج . فكان حمل الحد عليه أولى ، ليستكمل ذكر الجميع . الآخر- إنه ليس في الجوارح ما يكره التصريح بذكره إلا الفرج . فكنى عنه بالجلد ، لأنه موضع يكره التصريح فيه بالمسمى على حقيقته .

فإن قيل : إن تخصيص السمع والبصر بالذكر ، من باب التفصيل ، كقوله تعالى :{[6420]} { فاكهة ونخل ورمان } والنخل والرمان من الفاكهة ، قلت في الجواب : هذا القول عليك لا لك . لأن النخل والرمان إنما ذكرا لتفضيل لهما في الشكل أو في الطعم ، والفضيلة هاهنا في ذكر الشهادة ، إنما هي تعظيم لأمر المعصية . وغير السمع والبصر أعظم في المعصية . لأن معصية السمع إنما تكون في سماع غيبة ، أو في سماع صوت مزمار أو وتر ، أو ما جرى هذا المجرى . ومعصية البصر إنما تكون في النظر إلى محرم : وكلتا المعصيتين لا حدّ فيها . وأما المعاصي التي توجد من غير السمع والبصر ، فأعظم . لأن معصية اليد توجب القطع . ومعصية الفرج توجب جلد مائة أو الرجم . وهذا أعظم . فكان ينبغي أن تخص بالذكر دون / السمع والبصر . وإذا ثبت فساد ما ذهبت إليه ، فلم يكن المراد بالجلود إلا الفروج خاصة . انتهى كلام ابن الأثير . وناقشه ابن أبي الحديد في ( الفلك الدائر ) بما محصله : أن حمل الجلد على الفرج إنما يتعين ، إذا كان بين لفظتي الجلد والفرج أو معناهما مناسبة . ولا نجد مناسبة إلا أن يكون لأجل أن الجلد جزء من أجزاء ماهية الفرج ، فعبر عن الكل بالبعض ، وهو بعيد جدا . انتهى .

وأقول : مقصود من أثر عنه إرادة الفروج بالجلود هو إرادة الفرد الأهم والأقوى . وذلك لأن الجلود تصدق على ما حواه الجسم من الأعضاء والعضلات التي تكتسب الجريمة . ولا يخفى أن أهمها بالعناية وأولاها بالإرادة هو الفروج . لأن معصيتها تربى على الجميع . وقد عهد في مفسري السلف اقتصارهم في التأويل من العامّ على فرده الأهم . كقصرهم ( سبيل الله ) على الجهاد ، مع أن ( سبيل الله ) يصدق على كل ما فيه خير وقربة ونفع ومعونة ، على الطاعة . إلا أن أهم الجميع هو جهاد الذين يصدون عن الحق . فذكر الجهاد لا ينفي غيره . وهذه فائدة ينبغي أن يحرص على فهمها كل من له عناية بالتفسير . فإنها من فوائده الجليلة . وينحلّ بها إشكالات ليست بالقليلة ، والله الموفق . وقوله تعالى : { وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون } إما من تمام كلام الجلود ، أو مستأنف من كلامه تعالى : وعلى كل ، فهو مقرر لما قبله ، بأن القادر على الخلق أول مرة ، قادر على إنطاق كل شيء .


[6417]:[2 / البقرة / 284].
[6418]:(2 / البقرة / 235).
[6419]:(24 / النساء / 43) و (5 / المائدة / 6).
[6420]:(55 / الرحمان / 68).