{ وَقِيلِهِ يارب إِنَّ هَؤُلاَء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ } بجر { قيله } وهي قراءة عاصم . وحمزة . والسلمي . وابن وثاب : والأعمش .
وقرأ الأعرج . وأبو قلابة . ومجاهد . والحسن . وقتادة . ومسلم بن جندب برفعه وهي قراءة شاذة .
وقرأ الجمهور بنصبه ، واختلف في التخريج فقيل الجر على عطفه على لفظ الساعة في قوله تعالى : { وَعِندَهُ عِلْمُ الساعة } [ الزخرف : 85 ] أي عنده علم قيله ، والنصب على عطفه على محلها لأنها في محل نصب بعلم المضاف إليها فإنه كما قدمنا مصدر مضاف لمفعوله فكأنه قيل : يعلم الساعة ويعلم قيله ، والرفع على عطفه على { عِلْمُ الساعة } على حذف مضاف والأصل وعلم قيله فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ونسب الوجه الأول لأبي علي والثالث لابن جنى وجميع الأوجه للزجاج وضمير { قيله } عليها للرسول صلى الله عليه وسلم المفهوم من قوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ } [ الزخرف : 87 ] والقيل والقال والقول مصادر جاءت بمعنى واحد ، والمنادي وما في حيزه مقول القول ، والكلام خارج مخرج التحسر والتحزن والتشكي من عدم إيمان أولئك القوم ، وفي الإشارة إليهم بهؤلاء دون قوله قومي ونحوه تحقير لهم وبتر منهم لسوء حالهم ، والمراد من أخباره تعالى بعلمه ذلك وعيده سبحانه إياهم ، وقيل : الجر على إضمار حرف القسم والنصب على حذفه وإيصال فعله إليه محذوفاً والرفع على نحو لعمرك لأفعلن وإليه ذهب الزمخشري وجعل المقول يا رب وقوله سبحانه : { إِنَّ هَؤُلآء } الخ جواب القسم على الأوجه الثلاثة وضمير { قيله } كما سبق ، والكلام اخبار منه تعالى أنهم لا يؤمنون وإقسامه سبحانه عليه بقوله صلى الله عليه وسلم : يا رب لرفع شأنه عليه الصلاة والسلام وتعظيم دعائه والتجائه إليه تعالى ، والواو عنده للعطف أعني عطف الجملة القسمية على الجملة الشرطية لكن لما كان القسم بمنزلة الجملة الاعتراضية صارت الواو كالمضمحل عنها معنى العطف ، وفيه أن الحذف الذي تضمنه تخريجه من ألفاظ شاع استعمالها في القسم كعمرك وايمن الله واضح الوجه على الأوجه اللثلاثة ، وأما في غيرها كالقيل هنا فلا حكاه في البحر وهو كما ترى ، وقيل : النصب على العطف على مفعول يكتبون المحذوف أي يكتبون أقوالهم وأفعالهم وقيله يا رب الخ وليس بشيء ، وقيل : هو على العطف على مفعول { يعلمون } [ الزخرف : 86 ] أعني الحق أي يعلمون الحق وقيل الخ ، وهو قول لا يكاد يعقل ، وعن الأخفش أنه على العطف على { سِرَّهُمْ ونجواهم } [ الزخرف : 80 ] ورد بأنه ليس بقوى في المعنى مع وقوع الفصل بما لا يحسن اعتراضاً ومع تنافر النظم . وتعقب أن ما ذكر من الفصل ظاهر وأما ضعف المعنى وتنافر النظم فغير مسلم لأن تقديره أم يحسبون أنه لا نسمع سرهم ونجواهم وانا لا نسمع قيله الخ وهو منتظم أتم انتظام ، وعنه أيضاً أنه على اضمار فعل من القيل ناصب له على المصدرية والتقدير قال قيله ويؤيده قراءة ابن مسعود { وقال الرسول } والجملة معطوفة على ما قبلها .
ورد بأنه لا يظهر فيه ما يحسن عطفه على الجملة قبله وليس التأكيد بالمصدر في موقعه ولا ارتباط لقوله تعالى : { فاصفح } [ الزخرف : 89 ] به ، وقال العلامة الطيبي : في توجيهه إن قوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ } [ الزخرف : 87 ] تقديره وقلنا لك : ولئن سألتهم الخ وقلت : يا رب يأسا من إيمانهم وإنما جعل غائباً على طريق الالتفات لأنه كأنه صلى الله عليه وسلم فاقد نفسه للتحزن عليهم حيث لم ينفع فيهم سعيه واحتشاده ، وقيل : الواو على هذا الوجه للحال وقال بتقدير قد والجملة حالية أي فاني يؤفكون وقد قال الرسول يا رب الخ ، وحاصله فإني يؤفكون وقد شكا الرسول عليه الصلاة والسلام اصرارهم على الكفر وهو خلاف الظاهر ، وقيل : الرفع على الابتداء والخبر يا رب إلى لا يؤمنون أو هو محذوف أي مسمون أو متقبل فملة النداء وما بعده في موضع نصب بقيله والجملة حال أو معطوفة ، ولا يخفى ما في ذلك ، والأوجه عندي ما نسب إلى الزجاج ، والاعتراض عليه بالفصل هين ، وبضعف المعنى والتنافر غير مسلم ، ففي الكشف بعد ذكر تخريج الزجاج الجر أن الفاصل أعني من قوله تعالى : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إلى يُؤْفَكُونَ } [ الزخرف : 85 87 ] يصلح اعتراضاً لأن قوله سبحانه { وَعِندَهُ عِلْمُ الساعة } [ الزخرف : 85 ] مرتبط بقوله تعالى : { حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ الذى يُوعَدُونَ } [ الزخرف : 83 ] على ما لا يخفى ، والكلام مسوق للوعيد البالغ بقوله تعالى : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } إلى قوله عز وجل : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ الزخرف : 85 ، 68 ] متصل بقوله تعالى : { وَعِندَهُ عِلْمُ الساعة } [ الزخرف : 85 ] اتصال العصا بلحاها ، وقوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ } خطاب لمن يتأنى منه السؤال تتميم لذلك الكلام باستحقاقهم ما أوعدوه لعنادهم البالغ ، ومنه يظهر وقوع التعجب في قوله سبحانه : { فَإِنّي يُؤْفَكُونَ } وعلى هذا ظهر ارتباط وعلم قيله بقوله تعالى : { وَعِندَهُ عِلْمُ الساعة } وأن الفاصل متصل بهما اتصالاً يجل موقعه ، ومن هذا التقرير يلوح أن ما ذهب إليه الزجاج في الأوجه الثلاثة حسن ، ولك أن ترجحه على ما ذهب إليه الأخفش بتوافق القراءتين ، وأن حمل { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ } على الخطاب المتروك إلى غير معين أوفق بالمقام من حمله على خطابه عليه الصلاة والسلام وسلامته من اضمار القول قبل قوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ } مع أن السياق غير ظاهر الدلالة عليه اه ، وهو أحسن ما رأيته للمفسرين في هذا المقام . وقرأ أبو قلابة { قَالَتْ رَبّ } بفتح الباء ووجه ظاهر .
قوله تعالى : { وقيله يا رب } يعني قول محمد صلى الله عليه وسلم شاكياً إلى ربه : يا رب ، { إن هؤلاء قوم لا يؤمنون } قرأ عاصم وحمزة وقيله بجر اللام والهاء ، على معنى : وعنده علم الساعة وعلم قيله يا رب ، وقرأ الآخرون بالنصب ، وله وجهان : أحدهما معناه : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم وقيله يا رب ، والثاني : وقال قيله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا رب {وقيله يا رب إن هؤلاء} يعني كفار مكة {قوم لا يؤمنون} يعني لا يصدقون، وذلك أنه لما قال أيضا في الفرقان: {إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا} [الفرقان:30]، قال الله تعالى يسمع قوله، فيها تقديم: {يا رب إن هؤلاء}، يعني كفار مكة، {قوم لا يؤمنون}، يعني لا يصدقون بالقرآن أنه من الله عز وجل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَقِيِله: يا رَبّ إن هَؤُلاءِ قَوْمٌ لاّ يُؤمِنُونَ" اختلفت القرّاء في قراءة قوله: "وَقِيلِهِ "فقرأته عامة قرّاء المدينة ومكة والبصرة «وَقِيلَهُ» بالنصب. وإذا قرئ ذلك كذلك، كان له وجهان في التأويل: أحدهما العطف على قوله: "أمْ يَحْسَبُونَ أنّا لا نَسْمَعُ سِرّهُمْ ونَجْوَاهُمْ"، ونسمع قيله يا ربّ.
والثاني: أن يضمر له ناصب، فيكون معناه حينئذٍ: وقال قوله: "يا رَبّ إنّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يَؤْمِنُونَ" وشكا محمد شكواه إلى ربه.
وقرأته عامة قرّاء الكوفة "وَقِيلِهِ" بالخفض على معنى: وعنده علم الساعة، وعلم قيله.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان في قرأة الأمصار صحيحتا المعنى فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. فتأويل الكلام إذن: وقال محمد قيله شاكيا إلى ربه تبارك وتعالى قومه الذين كذّبوه، وما يلقى منهم: يا ربّ إن هؤلاء الذين أمرتني بإنذارهم وأرسلتني إليهم لدعائهم إليك، قوم لا يؤمنون.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أبطل سبحانه شبهتهم ووهى غاية التوهية أمرهم في شركهم وادعائهم الولد وغير ذلك مما تضمنته أقوالهم الفاسدة المنسوبة إليهم في هذه السورة، وأقام حجج الحق ونصب براهين الصدق، وأُبت ما ينفعهم وحذرهم ما يضرهم، حتى ختم ذلك بقوله مقسماً مع جلالة قدره وعظم أمره {لقد جئناكم بالحق} ثم حصر أمرهم في رد ذلك إن ردوه إلى قسمين في حالين:
حال مجاهرة وحال مماكرة، وأخبر أنه لا نجاة لهم على حالة منهما.
ولما كان اشتدادهم في تكذيبهم ومباعدتهم وعنادهم لا يزداد بمرور الزمان إلا قوة أوقع في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم أسفاً ورقة وشفقة عليهم وعطفاً، وصار يشكو أمرهم إلى ربه شكوى المضطر سراً وعلناً؛ إرادة التيسير في أمرهم والتهوين لشأنهم، فاختير للتعبير عن هذا المعنى مصدر "قال "المشترك لفظه مع لفظ الماضي، المبني للمجهول إشارة إلى أن شكواه بذلك كأنها صارت أمراً ضرورياً له لا اختيار له في قوله، فكأنه صار قولاً من غير قائل أو من غير قصد؛ لأنه صار حالاً من الأحوال، ووصل به الضمير من غير تقدم ذكر، إشارة إلى أن ضميره قد امتلأ بتلك الشفقة عليهم والرحمة لهم، فقال تعالى عطفاً على سرهم المقدر بعد {بلى} في قوله تعالى: {إنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى}.
أو يكون معطوفاً على محل الساعة أي "ويعلم قيله" قاله الزجاج، وعدل في هذا الوجه -وهو قراءة الجماعة عن الجر عطفا على لفظها تعظيما لما أوصله إلى هذا القيل من أذاهم، والذي دل على تقدير هذا الفعل قراءة عاصم له وحمزة بالجر فإنه ظاهر في تعلقه بذلك لعطفه على لفظ {الساعة}.
وقرئ شاذاً بالرفع ووجهه أن الواو للحال، أي كيف يصرفون عن اتباع رسولنا الآمر لهم بتوحيدنا في العبادة كما أنا توحدنا بالخلق، والحال أن قيله كذا في شكايتهم، أفيظنون أنا لا ننصره وقد أرسلناه.
{وقيله} الذي صار في ملازمته وعدم انفكاكه حالاً من الأحوال، الدال على وجه قيله وانكسار نفسه بما دلت عليه كسرة المصدر وياؤه المجانسة لها.
والتعبير بقوله: {يا رب} دال على ذلك بما تفيده "يا" الدالة على بعد أو تقديره، والرب الدال على الإحسان والعطف والشفقة والتدبير والسيادة والاختصاص والولاية، وذلك على غير العادة في دعاء المقربين، فإنها جارية في القرآن بإسقاط أداة النداء.
ولما كان الإرسال إليهم- والمرسل قادر -مقتضياً لإيمانهم، أكد ما ظهر له من حالهم بقوله زيادة في التحسر وإشارة إلى أن تأخير أمرهم يدل على أن إيمانهم مطموع فيه: {إن هؤلاء} لم يضفهم إلى نفسه بأن يقول: قومي، ونحو ذلك من العبارات ولا سماهم باسم قبيلتهم لما ساءه من حالهم، وأتى بهاء المنبهة قبل اسم على غير عادة الأصل إشارة إلى أنه استشعر من نفسه بعداً استصغاراً لها واحتقاراً.
{لا يؤمنون} أي لا يتجدد منهم هذا الفعل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
في ختام السورة يعظم من أمر اتجاه الرسول [صلى الله عليه وسلم] لربه، يشكو إليه كفرهم وعدم إيمانهم. فيبرزه ويقسم به: (وقيله. يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون).. وهو تعبير خاص ذو دلالة وإيحاء بمدى عمق هذا القول، ومدى الاستماع له، والعناية به، والرعاية من الله سبحانه والاحتفال.
كلمة (قِيلِه) مصدر لقال، نقول: قال قولاً ومقالاً وقيلاً، فمعنى (قيله) يعني قوله، قول مَنْ؟ قول سيدنا رسول الله يخاطب ربه {يٰرَبِّ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ} كفار مكة {قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ}.
لاحظ أنه صلى الله عليه وسلم أُوذِي من هؤلاء القوم في نفسه إيذاءاً وفي معنوياته برميه بما ليس فيه من السحر والشعر، والكهانة والجنون، وفي أهله، ولاقى منهم الأمرَّيْن، ومع ذلك لم يذكر شيئاً عن هذا كله، وكل ما اهتم به هو مسألة إيمان القوم، فلم يقُلْ: يا رب إن قومي آذوني وفعلوا كذا وكذا، إنما قال {يٰرَبِّ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ}.
هذا الذي حَزَّ في نفسه وأغضبه صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قطّ ولا غضب لنفسه قط، إنما كانت غَيْرته وغضبه لله وللحق الذي جاء به ودعا الناس إليه...
ومعنى الواو في أول الآية (وَقِيله) هذه الواو بمعنى القسم، فكأن الحق سبحانه يقسم بقول رسول الله {يٰرَبِّ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ} يقول: وبحق هذا القول.
وجواب القسم هنا محذوف للعلم به، أي: لأُعذبنهم عذاباً يشفى صدرك منهم، فلا تهتم بعدم إيمانهم ولو شئت لأرغمتهم على الإيمان ولخلقتهم على هيئة الملائكة، وكُلُّ ما عليك يا محمد أنْ تصفح عنهم.