روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ طُوبَىٰ لَهُمۡ وَحُسۡنُ مَـَٔابٖ} (29)

{ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } بدل من { القلوب } [ الرعد : 28 ] أي قلوب الذين آمنوا ، والأظهر أنه بدل الكل لأن القلوب في الأول قلوب المؤمنين المطمئنين وكذلك لو عمم القلب على معنى أن قلوب هؤلاء الأجلاء كل القلوب لأن الكفار أفئدتهم هواء ، وأما الحمل على بدل البعض ليعمم القلب من غير الملاحظة المذكورة واستنباط هذا المعنى من البدل فبعيد ، وأما احتماله لبدل الاشتمال وإن استحسنه الطيبي فكلاً أو مبتدأ خبره الجملة الدعائية على التأويل أعني قوله سبحانه : { طوبى لَهُمْ } أي يقال لهم ذلك ، أو لا حاجة إلى التأويل والجملة خبرية أو خبر مبتدأ مضمر أو نصب على المدح فطوبى لهم حال مقدرة والعامل فيها الفعلان .

وقال بعض المدققين : لعل الأشبه وجه آخر وهو أن يتم الكلام عند قوله تعالى : { مَنْ أَنَابَ } [ الرعد : 27 ] ثم قيل : { الذين ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ } [ الرعد : 28 ] في مقابلة { وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ } [ الرعد : 27 ] وقوله سبحانه : { أَلاَ بِذِكْرِ الله } [ الرعد : 28 ] جملة اعتراضية تفيد كيف لا تطمئن قلوبهم به ولا اطمئنان للقلب بغيره ، وقوله عز وجل : { الذين آمنوا } بدل من الأول ، وفيه إشارة إلى أن ذكر الله تعالى أفضل الأعمال الصالحة بل هو كلها و { طوبى لَهُمْ } خبر الأول فيتم التقابل بين القرينتين { وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ } [ الرعد : 27 ] و { الذين ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ } [ الرعد : 28 ] وبين جزئي التذييل : { يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } [ الرعد : 27 ] ومن الناس من زعم أن الموصول الأول مبتدأ والموصول الثاني خبره و { أَلاَ بِذِكْرِ الله } [ الرعد : 28 ] اعتراض و { طوبى لَهُمْ } دعاء وهو كما ترى ، { *وطوبى } قيل مصدر من طاب كبشرى وزلفى والواو منقلبة من الياء كموسر وموقن ، وقرأ مكوزة الأعرابي { *طيبي } ليسلم الياء ، وقال أبو الحسن الهنائي : هي جمع طيبة كما قالوا في كيسة كوسى . وتعقبه أبو حيان بأن فعلى ليست من أبنية الجموع فلعله أراد أنه اسم جمع ، وعلى الأول فلهم في المعنى المراد عبارات . فأخرج ابن جرير . وغيره عن ابن عباس أن المعنى فرح وقرة عين لهم ، وعن الضحاك غبطة لهم ، وعن قتادة حسنى لهم . وفي رواية أخرى عنه أصابوا خيراً ، وعن النخعي خير كثير لهم . وفي رواية أخرى عنه كرامة لهم ، وعن سميط بن عجلان دوام الخير لهم ويرجع ذلك إلى معنى العيش الطيب لهم . وفي رواية عن ابن عباس . وابن جبير أن { الصالحات طوبى } اسم للجنة بالحبشية وقيل بالهندية ، وقال القرطبي : الصحيح أنها علم لشجرة في الجنة ، فقد أخرج أحمد . وابن جرير . وابن أبي حاتم . وابن حبان . والطبراني . والبيهقي في البعث والنشور ، وصححه السهيلي . وغيره عن عتبة ابن عبد قال : «جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أفني الجنة فاكهة ؟ قال : نعم فيها شجرة تدعى طوبى هي نطاق الفردوس قال : أي شجر أرضنا تشبه ؟ قال : ليس تشبه شيئاً من شجر أرضك ولكن أتيت الشام ؟ قال : لا قال : فإنها تشبه شجرة بالشام تدعى الجوزة تنبت على ساق واحد ثم ينتشر أعلاها قال : ما عظم أصلها ؟ قال : لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتاها هرماً قال : فهل فيها عنب ؟ قال : نعم . قال : ما عظم العنقود منه ؟ قال : مسيرة شهر للغراب إلا بقع »

والأخبار المصرحة بأنها شجرة في الجنة منتشرة جداً ، وحينئذٍ فلا كلام في جواز الابتداء بها وإن كانت نكرة فمسوغ الابتداء بها ما ذهب إليه سيبويه من أنه ذهب بها مذهب الدعاء كقولهم : سلام عليك إلا أنه ذهب ابن مالك إلى أنه التزم فيها الرفع على الابتداء ، ورد عليه بأن عيسى الثقفي قرأ { وَحُسْنُ مَئَابٍ } بالنصب ، وخرج ذلك ثعلب على أنه معطوف على طوبى وأنها في موضع نصب ، وهي عنده مصدر معمول لمقدر أي طاب واللام للبيان كما في سقيا له ، ومنهم من قدر جعل { طوبى لَهُمْ } وقال صاحب اللوامح : إن التقدير يا طوبى لهم ويا حسن مآب فحسن معطوف على المنادي وهو مضاف للضمير واللام مقحمة كما في قوله :

يا بؤس للجهل ضرار الأقوام *** ولذلك سقط التنوين من بؤس وكأنه قيل : يا طوباهم ويا حسن مآبهم أي ما أطيبهم وأحسن مآبهم كما تقول : يا طيبها ليلة أي ما أطيبها ليلة ولا يخفى ما فيه من التكلف . وأجاب السفاقسي عن ابن مالك بأنه يجوز نصب { حُسْنُ } بمقدر أي ورزقهم حسن مآب وهو بعيد .

وقرىء { حُسْنُ * مَئَابٍ } بفتح النون ورفع { مَئَابٍ } وخرج ذلك على أن { حُسْنُ } فعل ماض أصله حسن نقلت ضمة السين إلى الحاء ومثله جائز في فعل إذا كان للمدح أو الذم كما قالوا : حسن ذا أدبا .

( هذا ومن باب الإشارة ) :{ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } تخلية وتحلية { طوبى لَهُمْ } بالوصول إلى الفطرة وكمال الصفات

{ وَحُسْنُ مَئَابٍ } [ الرعد : 29 ] بالدخول في جنة القلب وهي جنة الصفات أو طوبى لهم الآن حيث لم يوجد منهم ما يخالف رضاء محبوبهم وحسن مآب في الآخرة حيث لا يجدون من محبوبهم خلاف مأمولهم