الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ طُوبَىٰ لَهُمۡ وَحُسۡنُ مَـَٔابٖ} (29)

قوله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ } : فيه أوجه : أن يكونَ بدلاً من " القلوبُ " على حَذْفِ مضاف ، أي : قلوب الذين آمنوا ، وأن يكونَ بدلاً مِن " مَنْ أناب " ، وهذا على قولِ مَنْ لم يجعلِ الموصولَ الأول بدلاً مِن " مَنْ أناب " ، وإلا كان يَتَوالَى بدلان . وأن يكونَ مبتدأً ، و " طُوْبَى لهم " جملةٌ خبرية ، وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمر . وأن يكونَ منصوباً بإضمارِ فعلٍ . والجملةُ مِنْ " طُوبَى لهم " على هذين الوجهين حالٌ مقدَّرة ، العاملُ فيها " آمَنُوا وعَمِلوا " .

وواوُ " طُوبَى " منقلبةٌ عن ياءٍ لأنها من الطِّيب ، وإنما قُلِبَتْ لأجلِ الضمة قبلها كمُوسِر ومُوْقِن من اليُسْر واليقين . واختلفوا فيها : فقيل : هي اسمٌ مفردٌ مصدر كبُشْرى ورُجْعى ، مِنْ طاب يطيب . وقيل : بل هي جمعُ " طَيِّبة " كما قالوا : كُوْسَى في جمع كَيِّسَة ، وضُوْقَى في جمع ضَيِّقة . ويجوز أن يقال : " طِيْبى " بكسر الفاء وكذلك الكِيْسَى والضِيقَى . وهل هي اسمٌ لشجرةٍ بعينِها أو اسمٌ للجنة بلغةِ الهند أو الحبشة ؟ خلافٌ مشهور .

وجاز الابتداءُ ب " طُوبَى " : إمَّا لأنها عَلَمٌ لشيءٍ بعينه ، وإمَّا لأنها نكرةٌ في معنى الدعاء كسَلام عليك ووَيْل له ، كذا قال سيبويه . وقال ابن مالك : " إنه يُلزم رَفْعُها بالابتداء ، ولا تدخُلُ عليها نواسِخُه " . وهذا يَرُدُّ عليه : أنَّ بعضَهم جعلها في الآيةِ منصوبةً بإضمارِ فِعْلٍ ، أي : وجَعَلَ لهم طُوْبَى ، وقد يَتَأَيَّد ذلك بقراءةِ عيسى الثقفي " وحُسْنَ مآب " بنصب النون . قال : " إنه معطوفٌ على " طُوْبَى " ، وإنها في موضع نَصْبٍ " . قال ثعلب : " وطُوْبَى على هذا مصدرٌ كما قالوا : سُقْياً " . وخَرَّج هذه القراءةَ صاحبُ " اللوامح " على النداء ك { يَأَسَفَى } [ يوسف : 84 ] على الفَوْت ، يعني أنَّ " طُوْبَى " تضاف للضمير ، واللامقحمةٌ ، كقوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** يا بُؤْسَ للجهلِ ضَرَّاراً لأقوامِ

و [ قوله ] :

يا بُوسَ للحَرْبِ التي *** وَضَعَتْ أراهِطَ فاستراحوا

ولذلك سقط التنوينُ مِنْ " بؤس " كأنه قيل : يا طِيْباهم ، أي : ما أَطيبَهم وأحسنَ مآبَهم . قال الزمخشري : " ومعنى طُوْبَى لك : أَصَبْتَ خيراً وطِيباً ، ومحلُّها النصبُ أو الرفع كقولك : طِيباً لك وطِيبٌ لك ، وسلاماً لك ، وسلامٌ لك ، والقراءةُ في قوله : " وحُسن مآب " بالنصب والرفع تدلُّك على مَحَلَّيْها ، واللامُ في " لهم " للبيان ، مثلها في " سَقْياً لك " . فهذا يدلُّ على أنها تتصرَّفُ ولا تلزم الرفعَ بالابتداء .

وقرأ مَكْوَزَةُ الأعرابي " طِيْبَى " بكسرِ الطاء لِتَسْلَمَ الياءُ نحو : بِيْض ومَعِيْشة .

وقُرِئ " وحُسْنَ مآبٌ " بفتح النون ورفع " مآب " على أنه فعلٌ ماضٍ ، أصلُه " حَسُن " فَنُقِلَت ضمةُ العينِ إلى الفاءِ قَصْداً للمدح ، كقولهم :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . حُسْنَ ذا أَدَبا

و " مَآبٌُ " فاعلُه .