روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَعَلَٰمَٰتٖۚ وَبِٱلنَّجۡمِ هُمۡ يَهۡتَدُونَ} (16)

{ وعلامات } معالم يستدل بها السابلة من نحو جبل ومنهل ورائحة تراب ، فقد حكى أن من الناس من يشم التراب فيعرف بشمه الطريق وأنها مسلوكة أو غير مسلوكة ولذا سميت المسافة مسافة أخذاً لها من السوف بمعنى الشم ، وأخرج ابن جرير . وغيره عن ابن عباس أنها معالم الطرق بالنهار . وعن الكلبي أنها الجبال . وعن قتادة أنها النجوم ، وقال ابن عيسى : المراد منها الأمور التي يعلم بها ما يراد من خط أو لفظ أو إشارة أو هيئة ، والظاهر ما ذكر أولاً ؛ وأغرب ما فسرت به وأبعده أن المراد منها حيتان طوال رقاق كالحيات في ألوانها وحركاتها تكون في بحر الهند الذي يسار إليه من اليمن ، سميت بذلك لأنها إذا ظهرت كانت علامة للوصول إلى بلاد الهند وأمارة للنجاة { وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ } بالليل في البر والبحر ، والمراد بالنجم الجنس فيشمل الخنس وغيهرا مما يهتدي به ، وعن السدي تخيص ذلك بالثريا والفرقدين وبنات نعش والجدي ؛ وعن الفراء تخصيصه بالجدي والفرقدين ، وعن بعضهم أنه الثريا فإنه علم بالغلبة لها ، ففي الحديث إذا طلح النجم ارتفعت العاهة ، وقال الشاعر :

حتى إذا ما استقر النجم في غلس . . . وغودر البقل ملوى ومحصود

وعن ابن عباس أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : هو الجدي ولو صح هذا لا يعدل عنه ، والجدي هوجدي الفرقد ، وهو على ما في المغرب بفتح الجيم وسكون الدال والمنجمون يصغرونه فرقاً بينه وبين البرج ، وقيل : إنه كذلك لغة ، واستدل على إرادة ما يعم ذلك بما في «اللوامح » عن الحسن أنه قرأ ، وبالنجم { *بضمتين } وعن ابن وثاب أنه قرأ بضم فسكون فإن ذلك في القراءتين جمع كسقف وسقف ورهن ورهن والتسكين قيل للتخفيف ، وقيل : لغة ، والقول بأن ذلك جمع على فعل أولى مما قيل : إن أصله النجوم فحذفت الواو ؛ وزعم ابن عصفور أن قولهم : النجم من ضرورة الشعر وأنشد :

إن الذي قضى بذا قاض حكم . . . أن يرد الماء إذا غاب النجم

وهو نظير قوله :

حتى إذا ابتلت حلاقيم الحلق . . . والضمير يحتمل أن يكون عاماً لكل سالك في البر والبحر من المخاطبين فيما تقدم ، وتغيير التعبير للالتفات ، وتقديم الجار والمجرور للفاصلة والضمير المنفصل للتقوى ويحتمل أن كيون الضمير لقريش لأنهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة مشهورين للاهتداء في مسايرهم بالنجم ، وإخراج الكلام عن سنن الخطاب ، وتقديم الجار والضمير للتخصيص كأنه قيل : وبالنجم خصوصاً هؤلاء خصوصاً يهتدون ، فالاعتبار بذلك والشكر عليه بالتوحيد الزم لهم وأوجب عليهم ، وجعل بعضهم الآية أصلاً لمراعاة النجوم لمعرفة الأوقات والقبلة والطرق فلا بأس بتعلم ما يفيد تلك المعرفة ، لكن معرفة عين القبلة على التحقيق بالنجوم متعسر بل متعذر كما أفاده العلامة الرباني أبو العباس أحمد بن البناء لأنه إن اعتبر ذلك بما يسامت رؤوس أهل مكة من النجوم فليس مسقط العمود منه على بسيط مكة هو العمود الواقع منه على بسيط غيرها من المدن ، وإن اعتبر بالجدي فلا يلزم من أن يكون في مكة على الكتف أو على المنكب أن يكون في غيرها كذلك إلا لمن يكون في دائرة السمت المارة برؤوس أهل مكة والبلد الآخر ، وذلك مجهول لا يتوصل إليه إلا بمعرفة ما بين الطولين والعرضين وهو شيء اختلف في مقداره ولم يتعين الصحيح فيه ، وقول من قال : إن ذلك يعرف بجعل المصلي مثلاً الشمس بين عينيه إذا استوت في كبد السماء أطول يوم في السنة فمتى فعل ذلك فقد استقبل البيت إن أراد بكبد السماء فيه كبد سماء بلده فليس بصحيح لأن الشمس لا تستوي في كبد السماء في وقت واحد في بلدين متنائيين كثيراً ، وإن أراد به كبد سماء مكة فلا يعلم ذلك في بلد آخر إلا بمعرفة مابين البلدين في الطول ، وقد سمعت ما في ذلك من الاختلاف ، ويقال نحو هذا فيما يشبه ما ذكر بل قال قدس سره : إن معرفة ذلك على التحقيق بما يذكرونه من الدائرة الهندية ونحوها متعذر أيضاً لأن مبنى جميع ذلك على معرفة الأطوال والعروض ودون تحقيق ذلك خرط القتاد ، فلا ينبغي أن يكون الواجب على المصلي إلا تحلي الجهة ومعرفة الجهة تحصل بالنجوم وكذا بغيرها مما هو مذكور في محله .

هذا ومن باب الإشارة ) :{ وعلامات } وهي الآيات الآفاقية والأنفسية { وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ } [ النحل : 16 ] وهي الأنوار التي تلوح للسالك من عالم الغيب .

والعلامات في الظاهر أنوار الأفعال للعموم ، وأخص العلامات في العالم الأولياء ، والنجوم أهل المعارف الذين يسبحون في أفلاك الديمومية بأرواحهم وقلوبهم وأسرارهم من اقتدى بهم يهتدي إلى مقصوده الأبدي ، وفي الحديث «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم » والمراد بهم خواصهم ليتأتى الخطاب ، ويجوز أن يراد كلهم والخطاب لنا ولا مانع من ذلك على مشرب القوم .