روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{أَلَمۡ يَرَوۡاْ إِلَى ٱلطَّيۡرِ مُسَخَّرَٰتٖ فِي جَوِّ ٱلسَّمَآءِ مَا يُمۡسِكُهُنَّ إِلَّا ٱللَّهُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (79)

{ أَلَمْ يَرَوْاْ } وقرأ حمزة . وابن عامر . وطلحة . والأعمش . وابن هرمز { أَلَمْ تَرَوْاْ } بالتاء الفوقية على أنه خطاب العامة ، والمراد بهم جميع الخلق المخاطبون قبل في قوله تعالى : { والله أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أمهاتكم } [ النحل : 78 ] لا على أن المخاطب من وقع في قوله تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } [ النحل : 73 ] بتلوين الخطاب لأنه المناسب للاستفهام الإنكاري ولذا جعل قراءة الجمهور بياء الغيبية باعتبار غيبة { يَعْبُدُونَ } ولم يجعلوا ذلك التفاتاً حينئذ فالإنكار باعتبار اندراجهم في العامة ، والرؤية بصرية أي ألم ينظروا { إِلَى الطير } جمع طائر كركب وراكب ويقع على الواحد أيضاً وليس بمراد ويقال في الجمع أيضاً طيور وأطيار { مسخرات } مذلللات للطيران ، وفيه إشارة إلى أن طيرانها ليس بمقتضى طبعها { فِى جَوّ السمآء } أي في الهواء المتباعد من الأرض واللوح السكاك أبعد منه ، وقيل : الجو مسافة ما بين السماء والأرض والجوة لغة فيه ، وإضافته إلى السماء لما أنه في جانبها من الناظر ولا إظهار كمال القدرة ، وعن السدي تفسير الجو بالجوف وفسرت السماء على هذا بجهة العلو والطير قد يطير في هذه الجهة حتى يغيب عن النظر ولم يعلم منتهى ارتفاعه في الطيران إلا الله تعالى ، وعن كعب أن الطير لا ترتفع أكثر من اثني عشر ميلاً .

{ مَا يُمْسِكُهُنَّ } في الجو عن الوقوع { إِلاَّ الله } عز وجل بقدرته الواسعة فإن ثقل جسدها ورقة الهواء يقتضيات سقوطها ولاعلاقة من فوقها ولا دعامة من تحتها ، والجملة إما حال من الضمير المستترفي { مسخرات } أو من { الطير } وإما مستأنفة { إِنَّ في ذَلِكَ } الذي ذكر من التسخير في الجو والإمساك فيه ، وقيل المشار إليه ما اشتملت عليه هذه الآية والتي قبلها { لاَيَاتٍ } دالة على كمال قدرته جل شأنه { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي ن شأنهم أن يؤمنوا ، وخص ذلك بهم لأنهم المنتفعون به ، واقتصر الإمام على جعل المشار إليه ما فيه هذه الآية قال : وهذا دليل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته سبحانه فإنه جل شأنه خلق الطائر خلقة معها يمكه الطيران أعطاه جناحاً يبسطه مرة ويكنه أخرى مثل ما يعمل السابح في الماء وخلق الجو خلقة معها يمكن الطيران خلقه خلقة لطيفة يسهل بسببها خرقه والنفاذ فيه ولولا ذلك لما كان الطيران ممكناً اه .

وكذا المولى أبو السعود قال : إن في ذلك الذي ذكر من تسخير الطير للطيران بأن خلقها تتمكن بها منه بأن جعل لها أجنحة خفيفة وأذناباً كذلك وجعل أجسادها من الخفة بحيث إذا بسطت أجنحتها وأذنابها لا يطيق ثقلها أن يخرق ما تحتها من الهواء الرقيق القوام وتخرق ما بين يديها من الهواء لأنها لا تلاقيه بحجم كبير لآيات ظاهرة ، وذكر أن تسخرها بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المساعدة .

وتعقب ذلك أبو حيان بقوله : والذي نقوله إنه كان يمكن الطائر أن يطير ولو لم يخلق له جناح وأنه كان يمكنه خرق الشيء الكثيف وذلك بقدرة الله تعالى ولا نقول : إنه لولا الجناح ولطف الجو والآلات ما أمكن الطيران اه وأنا لا أظن أن أحداً ينفي الإمكان الذاتي للطيران بدون الجناح مثلاً لكن لا يبعد نفيه بدون لطف المطار والكثيف متى خرق كان المطار لطيفاً فافهم . واستدل بالآية على أن العبد خالق لأفعاله ، وأولها القاضي وهو ارتكاب لخلاف الظاهر لغير دليل .

( هذا ومن باب الإشارة ) :{ أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير مسخرات في جَوّ السمآء } فيه إشارة إلى تسخير طير القوى الروحانية والنفسانية من الفكر والعقل النظري والعملي بل الوهم والتخيل في فضاء عالم الأرواح { مَا يُمْسِكُهُنَّ } من غير تعلق بمادة ولا اعتماد على جسم ثقيل { إِلاَّ الله } [ النحل : 79 ] عز وجل .