البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَلَمۡ يَرَوۡاْ إِلَى ٱلطَّيۡرِ مُسَخَّرَٰتٖ فِي جَوِّ ٱلسَّمَآءِ مَا يُمۡسِكُهُنَّ إِلَّا ٱللَّهُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (79)

الجو : مسافة ما بين السماء والأرض ، وقيل : هو ما يلي الأرض في سمت العلو ، واللوح والسكاك أبعد منه .

ولما ذكر تعالى مدارك العلم الثلاثة : السمع ، والنظر ، والعقل ، والأوّلان مدرك المحسوس ، والثالث مدرك المعقول ، اكتفى من ذكر مدرك المحسوس بذكر النظر ، فإنه أغرب لما يشاهد به من عظيم المخلوقات على بعدها المتفاوت ، كمشاهدته النيرات التي في الأفلاك .

وجعل هنا موضع الاعتبار والتعجب الحيوان الطائر ، فإنّ طيرانه في الهواء مع ثقل جسمه مما يعجب منه ويعتبر به .

وتضمنت الآية أيضاً ذكر مدرك العقل في كونه لا يسقط ، إذ ليس تحته ما يدعمه ، ولا فوقه ما يتعلق به ، فيعلم بالعقل أنه له ممسك قادر على إمساكه وهو الله تعالى ، كما قال تعالى : { أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير } فانتظم في الآية ذكر مدرك الحس ومدرك العقل .

ومعنى مسخرات : مذللات ، وبني للمفعول دلالة على أن له مسخراً .

وقال أبو عبد الله الرازي : هذا دليل على كمال قدرة الله وحكمته ، فإنه تعالى خلق الطائر خلقه معها يمكنه الطيران ، أعطاه جناحاً يبسطه مرة ، ويكنه أخرى مثل ما يعمل السابح في الماء ، وخلق الجو خلقه معها يمكن الطيران خلقه خلقة لطيفة ، يسهل بسببها خرقه والنفاذ فيه ، ولولا ذلك لما كان الطيران ممكناً انتهى .

وكلامه منتزع من كلام القاضي قال : إنما أضاف الإمساك إلى نفسه ، لأنه تعالى هو الذي أعطى الآلات لأجلها تمكن الطائر من تلك الأفعال ، فلما كان هو المتسبب لذلك صحت هذه الإضافة انتهى .

والذي نقوله : إنه كان يمكنه أن يطير ولو لم يخلق له جناح ، وأنه كان يمكنه خرق الشيء الكثيف وذلك بقدرة الله تعالى ، وأن الممسك له في جو السماء هو الله تعالى .

وقد قام الدليل على أنّ جميع الأفعال كلها مخلوقة لله ، وقام الدليل على أنه تعالى هو الفاعل المختار ، فلا نقول : إنه لولا الجناح ولطف الجو ما أمكن الطيران ، ولا لولا الآلات ما أمكن .

وقال الزمخشري : ما يوافق كلامهما قال : مسخرات ، مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة ، والأسباب المواتية لذلك .

ثم أحسن أخيراً في قوله : ما يمسكهن في قبضهن وبسطهن ووقوفهن إلا الله بقدرته انتهى .

لآيات : جمع ولم يفرد ، لما في ذلك من الآيات خفة الطائر التي جعلها الله فيه لأن يرتفع بها ، وثقله الذي جعله فيه لأن ينزل ، والفضاء الذي بين السماء والأرض ، والإمساك الذي لله تعالى ، أو جمع باعتبار ما في هذه الآية والتي قبلها وقال : لقوم يؤمنون ، فإنهم هم الذين ينتفعون بالاعتبار ، ولتضمن الآية أن المسخر والممسك لها هو الله ، فهو إخبار منه تعالى ما يصدق به إلا المؤمن .