روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَإِذۡ بَوَّأۡنَا لِإِبۡرَٰهِيمَ مَكَانَ ٱلۡبَيۡتِ أَن لَّا تُشۡرِكۡ بِي شَيۡـٔٗا وَطَهِّرۡ بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ} (26)

{ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبراهيم مَكَانَ البيت } أي اذكر لهؤلاء الكفرة الذين يصدون عن سبيل الله تعالى والمسجد الحرام وقت جعلنا مكان البيت مباءة لجدهم إبراهيم عليه السلام أي مرجعاً يرجع إليه للعمارة والعبادة ويقال بوأه منزلاً إذا أنزله فيه ولما لزمه جعل الثاني مباءة للأول جيء باللام فهي للتعدية ، و { مَّكَانَ } مفعول به .

وقال الزجاج : المعنى بينا له مكان البيت ليبنيه ويكون مباءة له ولعقبه يرجعون إليه ويحجونه ، والأول مروى عن ابن عباس ، وقيل : اللام زائدة في المفعول به و { مَّكَانَ } ظرف لبوأنا . واعترض بأن اللام إنما تزاد إذا قدم المعمول أو كان العامل فرعاً وشيء منهما غير متحقق هنا وأن { مَكَانَ البيت } ظرف معين فحقه أن يتعدى الفعل إليه بفي ، وفيه نظر كما يعلم من كتب العربية ، وقيل : مفعول { بَوَّأْنَا } محذوف أي بوأنا الناس واللام في { لإبراهيم } لام العلة أي لأجل إبراهيم أي كرامة له ، والمعول عليه ما قدمنا ، وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت مع أن المراد تذكير ما وقع فيه من الحوادث قد مر غير مرة ، والمكان المتعارف ما يستقر عليه الشيء ويمنعه من النزول وللعلماء فيه مذاهب وليس هذا مكان تحقيقها ، وأصل البيت مأوى الإنسان بالليل نم قد يقال من غير اعتبار الليل فيه وجمعه أبيات وبيوت لكن البيوت بالمسكن أخص والأبيات بالشعر أخص ، ويقع ذلك على المتخذ من حجر ومن مدر ومن صوف ووبر ، ويعبر عن مكان الشيء ببيته ، والمراد بالبيت بيت الله عز وجل الكعبة المكرمة ، وقد بنيت خمس مرات ، إحداها بناء الملائكة عليهم السلام قبل آدم وكانت من ياقوتة حمراء ثم رفع ذلك البناء إلى السماء أيام الطوفان ، والثانية بناء إبراهيم عليه السلام . روي أنه تعالى لما أمره ببناء البيت لم يدر أين يبنى فأرسل الله تعالى له الريح الخجوج فكشفت عن أسه القديم فبنى عليه ، والثالثة بناء قريش في الجاهلية ، وقد حضره النبي صلى الله عليه وسلم وكان شابا فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه فأراد كل قبيلة أن يتولى رفعه ثم توافقوا على أن يحكم بينهم أول رجل يخرج من هذه السكة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من خرج فقضي بينهم أن يجعلوه في مرط ثم يرفعه جميع القبائل فرفعوه ثم ارتقى صلى الله عليه وسلم فرفعوه إليه فوضعه مكانه وكانوا يدعونه عليه السلام الأمين وكان ذلك قبل المبعث فيما قيل بخمس عشرة سنة ، والرابعة بناء عبد الله بن الزبير ، والخامسة بناء الحجاج وهو البناء الموجود اليوم وارتفاعها في السماء سبعة وعشرون ذراعاً وربع ذراع والذراع أربع وعشرون أصبعاً والأصبع ست شعيرات والشعيرة ست شعرات من شعر البرذون : وأما طولها في الأرض فمن الركن اليماني إلى الركن الأسود خمسة وعشرون ذراعاً وكذا ما بين اليماني والغربي ، وأما عرضها فهو من الركن اليماني إلى الركن الأسود عشرون ذراعاً ، وطول الباب ستة أذرع وعشرة أصابه ، وعرضه أربعة أذرع والباب في جدارها الشرقي وهو من خشب الساج مضبب بالصفائح من الفضة ، وارتفاع ما تحت عتبة الباب من الأرض أربعة أذرع وثلاث أصابع ، والميزاب في وسط جدار الحجر .

وعرض الملتزم وهو ما بين الباب والحجر الأسود أربعة أذرع ، وارتفاع الحجر الأسود من الأرض ثلاثة أذرع الاسبعا ، وعرض القدر الذي بدر منه شبر وأربع أصابع مضمومة ، وعرض المستجاد وهو بين الركن اليماني إلى الباب المسدود في ظهر الكعبة مقابلاً للمتلزم أربعة أذرع وخمس أصابع ، وعرض الباب المسدود ثلاثة أذرع ونصف ذراع وطوله أكثر من خمسة أذرع ، وأما الحجر ويسمى الحطيم والحظيرة فعلى هيئة نصف دائرة من صوب الشام والشمال بين الركن العراقي والشامي . وحده من جدار الكعبة الذي تحت الميزاب إلى جدار الحجر سبعة عشر ذراعاً وثماني أصابع منها سبعة أذرع أو ستة وشبر من أرض الكعبة ، والباقي كان زر بالغنم سيدنا اسماعيل عليه السلام فادخلوه في الحجر ، وما بين بابي الحجر عشرون ذراعاً ، وعرض جدار الحجر ذراعان ، وذرع تدوير جدار الحجر من داخله ثمانية وثلاثون ذراعاً ومن خارجه أربعون ذراعاً وست أصابع ، وارتفاع جدار الحجر ذراعان فذرع الطوق وحده حوالي الكعبة ، والحجر مائة ذراع وثلاثة وعشرون ذراعاً واثنتا عشرة أصبعاً ، وهذا على ما ذكره الإمام حسين بن محمد الآمدي في رسالة له في ذلك والعهدة عليه ، وإنا لنرجو من رب البيت أن يوفقنا لزيارة بيته وتحقيق ذلك بلطفه وكرمه ، و { إن } في قوله تعالى { أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً } قيل مفسرة ، والتفسير باعتبار أن التبوئة من أجل العبادة فكأنه قيل أمرنا إبراهيم عليه السلام بالعبادة وذلك فيه معنى القول دون حروفه أو لأن بوأناه بمعنى قلنا له تبوأ ، وقال ابن عطية : مخففة من الثقيلة وكأنه لتأويل بوأناه بأعلمناه ، فلا يرد عليه أنه لا بد أن يتقدمها فعل تحقيق أو ترجيح .

/ وقال أبو حيان : الأولى أن تكون الناصبة وكما توصل بالمضارع توصل بالماضي والأمر والنهي انتهى ، وحينئذ لا تنصب لفظاً ، وقول أبي حاتم : لا بد من نصب الكاف على هذا رده في الدر المصون أي فعلنا ذلك لئلا تشرك بي في العبادة شيئاً ، والظاهر أن الخطاب لإبراهيم عليه السلام ، ويؤيده قراءة عكرمة . وأبى نهيك { أَن لاَّ يُشْرِكْنَ } بالياء التحتية ؛ وقيل : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم .

{ وَطَهّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ والقائمين والركع السجود } المراد بالطهارة ما يشمل الحسية والمعنوية أي وطهر بيتي من الأوثان والأقذار لمن يطوف به ويصلى عنده ، ولعل التعبير عن الصلاة بأركانها من القيام والركوع والسجود للدلالة على أن كل واحد منها مستقل باقتضاء التطهير أو التبوئة على ما قيل : فكيف وقد اجتمعت أو للتنصيص على هذه الأمة المحمدية على نبيها أفضل الصلاة وأكمل التحية إذ اجتماع هذه الأركان ليس إلا في صلاتهم ، ولم يعطف السجود لأنه من جنس الركوع في الخضوع ، ويجوز أن يكون { القائمين } بمعنى المقيمين و { الطائفين } بمعنى الطارئين فيكون المراد بالركع السجود فقط المصلين إلا أن المتبادر من الطائفين ما ذكر أولاً .

ومن باب الإشارة : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبراهيم مَكَانَ البيت أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ والعاكفين والركع السجود } [ الحج : 26 ] فيه من تعظيم أمر الكعبة ما فيه ، وقد جعلها الله تعالى مثالاً لعرشه وجعل الطائفين بها من البشر كالملائكة الحافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم إلا أن تسبيح البشر وثناءهم عليه عز وجل بكلمات إلهية قرآنية فيكونون من حيث تسبيحهم وثناؤهم بتلك الكلمات من حيث أنها كلماته تعالى نواباً عنه عز وجل في ذلك ويكون أهل القرآن وهم كما في الحديث أهل الله تعالى وخاصته ، وللكعبة أيضاً امتياز على العرش وسائر البيوت الأربعة عشر لأمر ما نقل إلينا أنه في العرش ولا في غيره من تلك البيوت وهو الحجر الأسود الذي جاء في الخبر أنه يمين الله عز وجل ثم إنه تعالى جعل لبيته أربعة أركان لسر إلهي وهي في الحقيقة ثلاثة لأنه شكل مكعب الركن الذي يلي الحجر كالحجر في الصورة مكعب الشكل ولذلك سمى الكعبة تشبيهاً بالكعب ، ولما جعل الله تعالى له بيتاً في العالم الكبير جعل نظيره في العالم الصغير وهو قلب المؤمن ، وقد ذكروا أنه أشرف من هذا البيت «ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن » وجعل الخواطر التي تمر عليه كالطائفين وفيها مثلهم المحمود والمذموم ، وجعل محل الخواطر فيه كالأركان التي للبيت فمحل الخاطر الإلهي كركن الحجر ومحل الخاطر الملكي كالركن اليماني ومحل الخاطر النفسي كالمكعب الذي في الحجر لا غير وليس للخاطر الشيطاني فيه محل ، وعلى هذا قلوب الأنبياء عليهم السلام ، وقد يقال : محل الخاطر النفسي كالركن الشامي ومحل الخاطر الشيطاني كالركن العراقي ، وإنما جعل ذلك للركن العراقي لأن الشارع شرع أن يقال عنده : أعوذ بالله تعالى من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق ، وعلى هذا قلوب المؤمنين ما عدا الأنبياء عليهم السلام ، وأودع سبحانه فيه كنزاً أراد صلى الله عليه وسلم أن يخرجه فلم يفعل لمصلحة رآها ، وكذا أراد عمر فامتنع اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم .

وكذلك أودع جل وعلا في قلب الكامل كنز العلم به عز وجل .

وارتفاع البيت على ما مر سبعة وعشرون ذراعاً وربع ذراع . وقال بعضهم : ثمانية وعشرون ذراعاً ، وعليه يكون ذلك نظير منازل القلب التي تقطعها كواكب الإيمان السيارة لإظهار حوادث تجري في النفس كما تقطع السيارة منازلها في الفلك لإظهار الحوادث في العالم العنصري إلى غير ذلك مما لا يعرفه إلا أهل الكشف .