اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذۡ بَوَّأۡنَا لِإِبۡرَٰهِيمَ مَكَانَ ٱلۡبَيۡتِ أَن لَّا تُشۡرِكۡ بِي شَيۡـٔٗا وَطَهِّرۡ بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ} (26)

قوله تعالى : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت } الآية . أي ؛ اذكر حين ، واللام في «لإبراهيم » ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها للعلة ، ويكون مفعول «بَوَّأْنا » محذوفاً ، أي : بوأنا الناس لأجل{[30833]} إبراهيم مكان البيت{[30834]} ، و «بَوَّأَ » جاء متعدياً صريحاً قال تعالى : { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني إِسْرَائِيلَ }{[30835]} [ يونس : 93 ] { لَنُبَوِّئنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَا }{[30836]} [ العنكبوت : 58 ] ، وقال الشاعر :

كَمْ صَاحِبٍ لِي صَالِحٍ *** بَوَّأْتُه بِيَدَيَّ لَحْدا{[30837]}

والثاني : أنها مزيدة في المفعول به{[30838]} ، وهو ضعيف لما تقرر أنها لا تزاد إلا بعد تقدم معمول أو كان العامل فرعاً .

الثالث : أن تكون معدية للفعل على أنه مضمن معنى فعل يتعدى بها ، أي ؛ هيأنا له مكان البيت ، كقولك : هيأت له بيتاً ، فتكون اللام معدية{[30839]} قال معناه أبو البقاء {[30840]} .

وقال الزمخشري : واذكر حين جعلنا لإبراهيم مكان البيت مباءة{[30841]} ففسر المعنى بأنه ضمن «بَوأْنا » معنى ( جعلنا ) ، ولا يريد تفسير الإعراب . وفي «مكان البيت » وجهان :

أظهرهما : أنه مفعول به{[30842]} .

والثاني : قال أبو البقاء : أن يكون ظرفاً{[30843]} . وهو ممتنع من حيث إنه ظرف مختص فحقه أن يتعدى إليه ب ( في ) .

فصل

روي أن الكعبة الكريمة بنيت خمس مرات :

أحدها{[30844]} {[30845]} : بناء الملائكة قبل آدم ، وكانت من ياقوتة حمراء ، ثم رفعت إلى السماء أيام الطوفان .

والثانية : بناء إبراهيم - عليه السلام-{[30846]} .

والثالثة : بناء قريش في الجاهلية ، وقد حضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم {[30847]}- هذا البناء .

والرابعة : بناء ابن الزبير{[30848]} .

والخامسة : بناء الحجاج{[30849]} وهو البناء الموجود اليوم .

وروى أبو ذر قال : قلت : يا رسول الله أي مسجد وضع أول ؟ قال : «المسجد الحرام » .

قال : ثم قلت : أي ؟ قال : «المسجد الأقصى » . قلت : كم بينهما ؟ قال : «أربعون سنة »{[30850]} والمسجد الأقصى أسسه يعقوب - عليه السلام{[30851]} - وروى عبد الله بن عمرو بن العاص{[30852]} قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «بعثَ اللَّهُ جبريلَ عليه السلام{[30853]} إلى آدم وحواء فقال لهما : ابنيا ليَ بيتاً ، فخطّ لهما جبريل فجعل آدمُ يحفر وحواء تنقل حتى أجابه الماء نودي من تحته : حسبك يا آدم . فلما بنياه أوحى الله تعالى إليه أن يطوف به ، وقيل له أنت أول الناس وهذا أول بيت ، ثم تناسخت القرون حتى حجه نوح ، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه » . روي عن عليّ - رضي الله عنه - أن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم - عليه السلام{[30854]} - أن ابنِ لي بيتاً في الأرض ، فضاق به زرعاً ، فأرسل الله السكينة وهي ريح خجوج{[30855]} لها رأس ، فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت ، ثم تطوقت في موضع البيت تطوُّق الحية ، فبنى إبراهيم حتى إذا بلغ مكان الحجر ، قال لابنه : ابغني حجراً ، فالتمس حجراً حتى أتاه به ، فوجد الحجر الأسود قد ركب ، فقال لأبيه{[30856]} : من أين لك هذا ؟ قال : جاء به من لا يتكل على بنائك ، جاء به جبريل من السماء فأتمه ، قال : فمرّ عليه الدهر فانهدم ، فبنته العمالقة ، ثم انهدم فبنته جرهم ، ثم انهدم فبنته قريش ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ رجل شاب فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه فقالوا : نحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول من خرج ، فقضى بينهم أن يجعلوه في مربط ثم ترفعه جميع القبائل كلهم ، فرفعوه ، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن ، فوضعه ، وكانوا يدعونه الأمين{[30857]} . قال موسى بن عقبة{[30858]} : كان بناء الكعبة قبل المبعث بخمس عشرة سنة . قال ابن إسحاق : كانت الكعبة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثماني عشرة ذراعاً ، وكانت تكسى القباطي{[30859]} ثم كسيت البرود{[30860]} ، وأول من كساها الديباج{[30861]} الحجاج بن يوسف {[30862]} .

وأما المسجد الحرام فأول من أخر بنيان البيوت من حول الكعبة عمر بن الخطاب اشتراها من أهلها وهدمها ، فلما كان عثمان اشترى دوراً وزادها فيه ، فلما وُلّي ابن الزبير أحكم بنيانه وأكثر أبوابه وحسن جدرانه ، ولم يوسعه شيئاً آخر ، فلما استوى الأمر إلى عبد الملك بن مروان{[30863]} زاد في ارتفاع جدرانه وأمر بالكعبة فكسيت الديباج ، وتولى ذلك بأمره الحجاج .

وروي أن الله تعالى{[30864]} لما أمر إبراهيم - عليه السلام{[30865]} - ببناء{[30866]} البيت لم يدر أين يبني فبعث الله تعالى ريحاً خجوجاً فكشفت ما حول البيت عن الأساس . وقال الكلبي : بعث الله سحابة{[30867]} بقدر البيت ، فقامت بحيال البيت فيها رأس يتكلم وله لسان وعينان يا إبراهيم ابن على قدري وحيالي ، فبنى عليه{[30868]} .

قوله : { أَن لاَّ تُشْرِكْ } في «أَنْ » هذه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها هي المفسرة{[30869]} . قال الزمخشري بعد أن ذكر هذا الوجه : فإن قلت : كيف يكون النهي عن الشرك ، والأمر بتطهير البيت تفسيراً للتبوئِة . قلت : كانت التبوئة مقصودة من أجل العبادة ، وكأنه قيل تعبدنا{[30870]} إبراهيم قلنا لا تشرك{[30871]} . يعني الزمخشري{[30872]} أن «أن » المفسرة لابد أن يتقدمها ما هو بمعنى القول لا حروفه ولم يتقدم إلا لتبوئة وليست بمعنى{[30873]} القول فضمنها معنى القول ، ولا يريد بقوله : قلنا : لا تشرك . تفسير الإعراب بل تفسير المعنى ، لأن المفسرة لا تفسر القول الصريح {[30874]} .

الثاني : أنها المخففة من الثقيلة . قاله ابن عطية{[30875]} . وفيه نظر من حيث إن ( أن ) المخففة لا بد أن يتقدمها فعل تحقيق أو ترجيح كحالها{[30876]} إذا كانت مشددة {[30877]} .

الثالث : أنها المصدرية التي تنصب المضارع ، وهي توصل بالماضي والمضارع والأمر ، والنهي كالأمر{[30878]} ، وعلى هذا ف «أن » مجرورة بلام العلة مقدرة أي : بوأناه لئلا تشرك ، وكان من حق اللفظ على هذا الوجه أن يكون «أن لا يشرك » بياء الغيبة ، وقد قرئ بذلك ، قاله أبو البقاء : وقوى ذلك قراءة من قرأة{[30879]} بالياء {[30880]} . يعني من تحت . ووجه قراءة العامة على هذا التخريج{[30881]} أن يكون من الالتفات من الغيبة إلى الخطاب .

الرابع : أنها الناصبة ومجرورة بلام أيضاً ، إلا أن اللام متعلقة بمحذوف ، أي : فعلنا ذلك لئلا تشرك ، فجعل النهي صلة لها ، وقَوَّى ذلك قراءة الياء قاله أبو البقاء{[30882]} . والأصل عدم التقدير مع عدم الاحتياج إليه . وقرأ عكرمة وأبو نهيك { أن لا يشرك } بالياء {[30883]} .

قال أبو حيان : على معنى أن يقول معنى القول الذي قيل له{[30884]} . وقال أبو حاتم : ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة بمعنى : لئلا يُشْرِكَ{[30885]} . قال شهاب الدين : كأنه لم يظهر له صلة ( أَنْ ) المصدرية بجملة النهي ؛ فجعل ( لاَ ) نافية ، وسلّط ( أَنْ ) على المضارع بعدها حتى صار علة للفعل قبله ، وهذا غير لازم لما تقدم من وضوح المعنى مع جعلها ناهية {[30886]} .

فصل{[30887]}

وههنا سؤالات :

الأول : إذا قلنا : أنّ ( أَنْ ) هي المفسرة : فكيف يكون النهي عن الشرك والأمر بتطهير البيت تفسيراً للتبوئة ؟

والجواب : أنه سبحانه{[30888]} لما قال : جعلنا البيت مرجعاً لإبراهيم ، فكأنه قيل : ما معنى كون البيت مرجعاً له ، فأجيب عنه بأن معناه أن يكون بقلبه{[30889]} موحداً لرب البيت عن الشريك والنظير مشتغلاً بتنظيف البيت عن الأوثان والأصنام .

السؤال الثاني : أن إبراهيم - عليه السلام{[30890]} - لما لم يشرك بالله فيكف قيل : { لاَّ تُشْرِكْ بِي } ؟

والجواب : المعنى : لا تجعل في العبادة لي شريكاً ، ولا تشرك بي غرضاً آخر في بناء البيت .

السؤال الثالث : أنَّ البيت ما كان معموراً قبل ذلك فكيف قال : «وَطَهِّرْ بَيتِي » .

والجواب : لعل ذلك المكان كان صحراء فكانوا{[30891]} يرمون إليها الأقذار ، فأمر إبراهيم ببناء ذلك{[30892]} البيت في ذلك المكان وتطهيره عن الأقذار ، أو كانت معمورة وكانوا وضعوا فيها أصناماً ، فأمره الله تعالى بتخريب ذلك البناء{[30893]} ووضع بناء جديد ، فذلك هو التطهير عن الأوثان ، أو يكون المراد أنك بعد أن تبنيه فطهره عما لا{[30894]} ينبغي من الشرك .

وقوله : «لِلطَّائِفينَ » قال ابن عباس : للطائفين بالبيت من غير أهل مكة «والقائمين » أي : المقيمين فيها ، «والرُّكَّع{[30895]} السُّجُود » أي : المصلين من الكل ، وقيل : القائمون هم المصلون{[30896]} .


[30833]:أجل: سقط من ب.
[30834]:انظر تفسير ابن عطية 10/261، البحر المحيط 6/363.
[30835]:من قوله تعالى: {ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم} [يونس: 93].
[30836]:من قوله تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين} [العنكبوت: 58].
[30837]:البيت من مجزوء الكامل، قاله عمرو بن معد يكرب الزبيدى، فارس العرب المشهور، ويروى: كم من أخ لي ماجد. بوأته: هيأت له. اللحد – بفتح اللام المشددة وبضمها: الشق الذي يكون في جانب القبر موضع الميت، لأنه قد أميل عن وسطه إلى جانبه. والشاهد فيه قوله (بوأته) حيث جاء (بوأ) متعديا وقد تقدم.
[30838]:انظر معاني القرآن للفراء 2/223، إعراب القرآن للنحاس 3/94، ابن عطية 10/260 البيان 2/173، التبيان 2/939، البحر المحيط 6/362.
[30839]:انظر تفسير ابن عطية 10/261، البيان 2/173.
[30840]:فإنه قال: (وقيل: اللام غير زائدة، والمعنى هيئنا) التبيان 2/173.
[30841]:الكشاف: 3/30.
[30842]:انظر التبيان 2/173.
[30843]:التبيان 2/939، ونص أبي البقاء: ("ومكان البيت" ظرف).
[30844]:في الأصل: أحدهما. وهو تحريف.
[30845]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[30846]:صلى الله عليه وسلم: سقط من ب.
[30847]:صلى الله عليه وسلم: سقط من ب.
[30848]:تقدم.
[30849]:تقدم.
[30850]:أخرجه مسلم (مساجد)1/370، النسائي (مساجد) 2/32، ابن ماجه (مساجد) 1/248، أحمد 5/150، 156، 158، 160، 166، 167.
[30851]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[30852]:هو عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي، أخذ عنه ابن المسيب وعروة وطاوس وغيرهم وكان يلوم أباه على القتال في الفتنة بأدب وتؤدة. مات سنة 65 هـ. خلاصة تذهب تهذيب الكمال 2/83.
[30853]:عليه السلام: سقط من ب.
[30854]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[30855]:الخجوج: الريح الشديدة المر، وريح خجوج: تخج في هبوبها، أي تلتوي. اللسان (خجج).
[30856]:في ب: لابنه. وهو تحريف.
[30857]:انظر تفسير ابن كثير 1/328 – 329.
[30858]:تقدم.
[30859]:القباطي: ثياب من كتان بيض رقاق، كانت تنسج بمصر، وهي منسوبة إلى القبط (على غير قياس). المعجم الوسيط (قبط) 2/738.
[30860]:البرود: جمع البرد وهو ثوب فيه خطوط. اللسان (برد).
[30861]:الديباج: ضرب من الثياب. اللسان (دبج).
[30862]:انظر تفسير ابن كثير 1/329.
[30863]:هو عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي أبو الوليد المدني ثم الدمشقي أخذ عن أبيه وأبي هريرة وأم سلمة، وأخذ عنه ابنه محمد وعروة والزهيري، مات سنة 36 هـ. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال 2/180 – 181.
[30864]:من هنا نقله ابن عادل عن البغوي 5/573 – 573.
[30865]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[30866]:في الأصل: بناء.
[30867]:في ب: سبحانه. وهو تحريف.
[30868]:آخر ما نقله هنا عن البغوي 5/572 – 573.
[30869]:ذكرت شروط "أن" المفسرة في سورة طه عند قوله تعالى: {أن أقذفيه في التابوت} من الآية (39). وانظر إعراب القرآن للنحاس 3/94، ومشكل إعراب القرآن 2/97، الكشاف 3/30، ابن عطية 10/262، والبيان 2/174، التبيان 2/940.
[30870]:في الأصل: بعديا. وهو تحريف.
[30871]:الكشاف 3/30.
[30872]:الزمخشري: سقط من ب.
[30873]:في ب: معنى.
[30874]:خلافا لابن عصفور فإنه جوز أن يفسر بها صريح القول، فإنه ذكر من أقسام (أن) أن تكون حرف عبارة وتفسير، فقال: (والتي هي حرف عبارة وتفسير، وهي الواقعة بعد القول أو ما يرجع معناه إلى معنى القول، وتكون ما بعدها تفسيرا لما قبلها، ولا موضع لها من الإعراب)، شرح جمل الزجاجي 2/173، وانظر أيضا المغني 1/32.
[30875]:تفسير ابن عطية 10/262 وانظر أيضا البيان 2/174.
[30876]:في النسختين: كمالها. والصواب ما أثبته.
[30877]:انظر البحر المحيط 6/363.
[30878]:انظر البحر المحيط 6/364 المغني 1/28، الهمع 1/2.
[30879]:في ب: قرأ.
[30880]:التبيان 2/940، وقرأ "يشرك" بالياء عكرمة وابن محيصن كما سيأتي.
[30881]:في الأصل: الترجيح.
[30882]:فإنه قال: (وقيل: هي مصدرية، أي: فعلنا ذلك لئلا تشرك، وجعل النهي صلة، وقوى ذلك قراءة من قرأ بالياء) التبيان 2/940.
[30883]:المختصر (95). تفسير ابن عطية 10/261 البحر المحيط 6/364.
[30884]:البحر المحيط 6/364.
[30885]:انظر تفسير ابن عطية 10/261، البحر المحيط 6/364.
[30886]:الدر المصون: 5/71.
[30887]:هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 23/27 – 28.
[30888]:في ب: سبحانه وتعالى.
[30889]:في الأصل: به أن يكون تقلبه. وهو تحريف.
[30890]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[30891]:في ب: وكانوا.
[30892]:ذلك: سقط من ب.
[30893]:في ب: البيت.
[30894]:في ب: عين ما لا. وهو تحريف.
[30895]:في الأصل: وركع. وهو تحريف.
[30896]:انظر الفخر الرازي 23/28.