قوله تعالى : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت } الآية . أي ؛ اذكر حين ، واللام في «لإبراهيم » ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها للعلة ، ويكون مفعول «بَوَّأْنا » محذوفاً ، أي : بوأنا الناس لأجل{[30833]} إبراهيم مكان البيت{[30834]} ، و «بَوَّأَ » جاء متعدياً صريحاً قال تعالى : { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني إِسْرَائِيلَ }{[30835]} [ يونس : 93 ] { لَنُبَوِّئنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَا }{[30836]} [ العنكبوت : 58 ] ، وقال الشاعر :
كَمْ صَاحِبٍ لِي صَالِحٍ *** بَوَّأْتُه بِيَدَيَّ لَحْدا{[30837]}
والثاني : أنها مزيدة في المفعول به{[30838]} ، وهو ضعيف لما تقرر أنها لا تزاد إلا بعد تقدم معمول أو كان العامل فرعاً .
الثالث : أن تكون معدية للفعل على أنه مضمن معنى فعل يتعدى بها ، أي ؛ هيأنا له مكان البيت ، كقولك : هيأت له بيتاً ، فتكون اللام معدية{[30839]} قال معناه أبو البقاء {[30840]} .
وقال الزمخشري : واذكر حين جعلنا لإبراهيم مكان البيت مباءة{[30841]} ففسر المعنى بأنه ضمن «بَوأْنا » معنى ( جعلنا ) ، ولا يريد تفسير الإعراب . وفي «مكان البيت » وجهان :
أظهرهما : أنه مفعول به{[30842]} .
والثاني : قال أبو البقاء : أن يكون ظرفاً{[30843]} . وهو ممتنع من حيث إنه ظرف مختص فحقه أن يتعدى إليه ب ( في ) .
روي أن الكعبة الكريمة بنيت خمس مرات :
أحدها{[30844]} {[30845]} : بناء الملائكة قبل آدم ، وكانت من ياقوتة حمراء ، ثم رفعت إلى السماء أيام الطوفان .
والثانية : بناء إبراهيم - عليه السلام-{[30846]} .
والثالثة : بناء قريش في الجاهلية ، وقد حضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم {[30847]}- هذا البناء .
والرابعة : بناء ابن الزبير{[30848]} .
والخامسة : بناء الحجاج{[30849]} وهو البناء الموجود اليوم .
وروى أبو ذر قال : قلت : يا رسول الله أي مسجد وضع أول ؟ قال : «المسجد الحرام » .
قال : ثم قلت : أي ؟ قال : «المسجد الأقصى » . قلت : كم بينهما ؟ قال : «أربعون سنة »{[30850]} والمسجد الأقصى أسسه يعقوب - عليه السلام{[30851]} - وروى عبد الله بن عمرو بن العاص{[30852]} قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «بعثَ اللَّهُ جبريلَ عليه السلام{[30853]} إلى آدم وحواء فقال لهما : ابنيا ليَ بيتاً ، فخطّ لهما جبريل فجعل آدمُ يحفر وحواء تنقل حتى أجابه الماء نودي من تحته : حسبك يا آدم . فلما بنياه أوحى الله تعالى إليه أن يطوف به ، وقيل له أنت أول الناس وهذا أول بيت ، ثم تناسخت القرون حتى حجه نوح ، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه » . روي عن عليّ - رضي الله عنه - أن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم - عليه السلام{[30854]} - أن ابنِ لي بيتاً في الأرض ، فضاق به زرعاً ، فأرسل الله السكينة وهي ريح خجوج{[30855]} لها رأس ، فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت ، ثم تطوقت في موضع البيت تطوُّق الحية ، فبنى إبراهيم حتى إذا بلغ مكان الحجر ، قال لابنه : ابغني حجراً ، فالتمس حجراً حتى أتاه به ، فوجد الحجر الأسود قد ركب ، فقال لأبيه{[30856]} : من أين لك هذا ؟ قال : جاء به من لا يتكل على بنائك ، جاء به جبريل من السماء فأتمه ، قال : فمرّ عليه الدهر فانهدم ، فبنته العمالقة ، ثم انهدم فبنته جرهم ، ثم انهدم فبنته قريش ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ رجل شاب فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه فقالوا : نحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول من خرج ، فقضى بينهم أن يجعلوه في مربط ثم ترفعه جميع القبائل كلهم ، فرفعوه ، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن ، فوضعه ، وكانوا يدعونه الأمين{[30857]} . قال موسى بن عقبة{[30858]} : كان بناء الكعبة قبل المبعث بخمس عشرة سنة . قال ابن إسحاق : كانت الكعبة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثماني عشرة ذراعاً ، وكانت تكسى القباطي{[30859]} ثم كسيت البرود{[30860]} ، وأول من كساها الديباج{[30861]} الحجاج بن يوسف {[30862]} .
وأما المسجد الحرام فأول من أخر بنيان البيوت من حول الكعبة عمر بن الخطاب اشتراها من أهلها وهدمها ، فلما كان عثمان اشترى دوراً وزادها فيه ، فلما وُلّي ابن الزبير أحكم بنيانه وأكثر أبوابه وحسن جدرانه ، ولم يوسعه شيئاً آخر ، فلما استوى الأمر إلى عبد الملك بن مروان{[30863]} زاد في ارتفاع جدرانه وأمر بالكعبة فكسيت الديباج ، وتولى ذلك بأمره الحجاج .
وروي أن الله تعالى{[30864]} لما أمر إبراهيم - عليه السلام{[30865]} - ببناء{[30866]} البيت لم يدر أين يبني فبعث الله تعالى ريحاً خجوجاً فكشفت ما حول البيت عن الأساس . وقال الكلبي : بعث الله سحابة{[30867]} بقدر البيت ، فقامت بحيال البيت فيها رأس يتكلم وله لسان وعينان يا إبراهيم ابن على قدري وحيالي ، فبنى عليه{[30868]} .
قوله : { أَن لاَّ تُشْرِكْ } في «أَنْ » هذه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها هي المفسرة{[30869]} . قال الزمخشري بعد أن ذكر هذا الوجه : فإن قلت : كيف يكون النهي عن الشرك ، والأمر بتطهير البيت تفسيراً للتبوئِة . قلت : كانت التبوئة مقصودة من أجل العبادة ، وكأنه قيل تعبدنا{[30870]} إبراهيم قلنا لا تشرك{[30871]} . يعني الزمخشري{[30872]} أن «أن » المفسرة لابد أن يتقدمها ما هو بمعنى القول لا حروفه ولم يتقدم إلا لتبوئة وليست بمعنى{[30873]} القول فضمنها معنى القول ، ولا يريد بقوله : قلنا : لا تشرك . تفسير الإعراب بل تفسير المعنى ، لأن المفسرة لا تفسر القول الصريح {[30874]} .
الثاني : أنها المخففة من الثقيلة . قاله ابن عطية{[30875]} . وفيه نظر من حيث إن ( أن ) المخففة لا بد أن يتقدمها فعل تحقيق أو ترجيح كحالها{[30876]} إذا كانت مشددة {[30877]} .
الثالث : أنها المصدرية التي تنصب المضارع ، وهي توصل بالماضي والمضارع والأمر ، والنهي كالأمر{[30878]} ، وعلى هذا ف «أن » مجرورة بلام العلة مقدرة أي : بوأناه لئلا تشرك ، وكان من حق اللفظ على هذا الوجه أن يكون «أن لا يشرك » بياء الغيبة ، وقد قرئ بذلك ، قاله أبو البقاء : وقوى ذلك قراءة من قرأة{[30879]} بالياء {[30880]} . يعني من تحت . ووجه قراءة العامة على هذا التخريج{[30881]} أن يكون من الالتفات من الغيبة إلى الخطاب .
الرابع : أنها الناصبة ومجرورة بلام أيضاً ، إلا أن اللام متعلقة بمحذوف ، أي : فعلنا ذلك لئلا تشرك ، فجعل النهي صلة لها ، وقَوَّى ذلك قراءة الياء قاله أبو البقاء{[30882]} . والأصل عدم التقدير مع عدم الاحتياج إليه . وقرأ عكرمة وأبو نهيك { أن لا يشرك } بالياء {[30883]} .
قال أبو حيان : على معنى أن يقول معنى القول الذي قيل له{[30884]} . وقال أبو حاتم : ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة بمعنى : لئلا يُشْرِكَ{[30885]} . قال شهاب الدين : كأنه لم يظهر له صلة ( أَنْ ) المصدرية بجملة النهي ؛ فجعل ( لاَ ) نافية ، وسلّط ( أَنْ ) على المضارع بعدها حتى صار علة للفعل قبله ، وهذا غير لازم لما تقدم من وضوح المعنى مع جعلها ناهية {[30886]} .
فصل{[30887]}
الأول : إذا قلنا : أنّ ( أَنْ ) هي المفسرة : فكيف يكون النهي عن الشرك والأمر بتطهير البيت تفسيراً للتبوئة ؟
والجواب : أنه سبحانه{[30888]} لما قال : جعلنا البيت مرجعاً لإبراهيم ، فكأنه قيل : ما معنى كون البيت مرجعاً له ، فأجيب عنه بأن معناه أن يكون بقلبه{[30889]} موحداً لرب البيت عن الشريك والنظير مشتغلاً بتنظيف البيت عن الأوثان والأصنام .
السؤال الثاني : أن إبراهيم - عليه السلام{[30890]} - لما لم يشرك بالله فيكف قيل : { لاَّ تُشْرِكْ بِي } ؟
والجواب : المعنى : لا تجعل في العبادة لي شريكاً ، ولا تشرك بي غرضاً آخر في بناء البيت .
السؤال الثالث : أنَّ البيت ما كان معموراً قبل ذلك فكيف قال : «وَطَهِّرْ بَيتِي » .
والجواب : لعل ذلك المكان كان صحراء فكانوا{[30891]} يرمون إليها الأقذار ، فأمر إبراهيم ببناء ذلك{[30892]} البيت في ذلك المكان وتطهيره عن الأقذار ، أو كانت معمورة وكانوا وضعوا فيها أصناماً ، فأمره الله تعالى بتخريب ذلك البناء{[30893]} ووضع بناء جديد ، فذلك هو التطهير عن الأوثان ، أو يكون المراد أنك بعد أن تبنيه فطهره عما لا{[30894]} ينبغي من الشرك .
وقوله : «لِلطَّائِفينَ » قال ابن عباس : للطائفين بالبيت من غير أهل مكة «والقائمين » أي : المقيمين فيها ، «والرُّكَّع{[30895]} السُّجُود » أي : المصلين من الكل ، وقيل : القائمون هم المصلون{[30896]} .