روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{أَمَّن يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ وَمَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (64)

{ أمن يبدأ الخلق } أي يوجده مبتدئاً له { ثُمَّ يُعِيدُهُ } يكرر إيجاده ويرجعه كما كان ، وذلك بعد إهلاكه ضرورة أن الإعادة لا تعقل إلا بعده ، والظاهر أن المراد بهذا ما يكون من الإعادة بالبعث بعد الموت ، فأل في الخلق ليست للاستغراق لأن منه ما لا يعاد بالإجماع ، ومنه ما في إعادته خلاف بين المسلمين ، وتفصيله في محله .

واستشكل الحمل على الإعادة بالبعث بأن الكلام مع المشركين وأكثرهم منكرون لذلك فكيف يحمل الكلام عليه ويخاطبون به خطاب المعترف ؟ وأجيب بأن تلك الإعادة لوضوح براهينها جعلوا كأنهم معترفون بها لتمكنهم من معرفتها فلم يبق لهم عذر في الإنكار ؛ وقيل : إن منهم من اعترف بها ، والكلام بالنسبة إليه وليس بذاك ، وأما تجويز كون أل للجنس وأن المراد بالبدء والإعادة ما يشاهد في عالم الكون والفساد من إنشاء بعض الأشياء وإهلاكها ، ثم إنشاء أمثالها وذلك مما لا ينكره المشركون المنكرون للإعادة بعد الموت فليس بشيء أصلاً كما لا يخفى { وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والأرض } أي بأسباب سماوية وأرضية قد رتبها على ترتيب بديع تقتضيه الحكمة التي عليها بنى أمر التكوين { ءإله } آخر موجود { أَنَّ مَعَ الله } حتى يجعل شريكاً له سبحانه في العبادة ، وقوله تعالى : { قُلْ هَاتُواْ برهانكم } أمر له عليه الصلاة والسلام بتبكيتهم إثر تبكيت أي هاتوا برهاناً عقلياً أو نقلياً يدل على أن معه عز وجل إلهاً ، وقيل : أي هاتوا برهاناً على أن غيره تعالى يقدر على شيء مما ذكر من أفعاله عز وجل ، وتعقب بأن المشركين لا يدعون ذلك صريحاً ولا يلتزمون كونه من لوازم الألوهية وإن كان منها في الحقيقة فمطالبتهم بالبرهان عليه لا على صريح دعواهم مما لا وجه له ، وفي إضافة البرهان إلى ضميرهم تهكم بهم لما فيها من إيهام أن لهم برهاناً وأنى لهم ذلك ، وقيل : إن الإضافة لزيادة التبكيت كأنه قيل : نحن نقنع منكم بما تعدونه أنتم أيها الخصوم برهاناً يدل على ذلك وإن لم نعده نحن ولا أحد من ذوي العقول كذلك ، مع هذا أنتم عاجزون عن الاتيان به { إِن كُنتُمْ صادقين } أي في تلك الدعوى ، واستدل به على أن الدعوى لا تقبل ما لم تنور بالبرهان .

هذا وفي «الكشف » أن مبنى هذه الآيات الترقي لأن الكلام في إثبات أن لا خيرية في الأصنام مع أن كل خير منه تبارك وتعالى ، فأجمل أولاً بذكر اسمه سبحانه الجامع في قوله تعالى : { أألله } [ النمل : 59 ] ثم أخذ في المفصل فجعل خلق السموات والأرض تمهيداً لإنزال الماء وإنبات الحدائق لا بل للأخير ، يدل عليه الالتفات هنالك والتأكيد بقوله تعالى : { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ } [ النمل : 60 ] كأنه يذكر سبحانه ما فيها من المنافع الكثيرة لوناً وطعماً ورائحة واسترواح ظل .

ولما أثبت أنه فعله الخاص أنكر أن يكون له شريك وجعلهم عادلين عن منهج الصواب أو عادلين به سبحانه من لا يستحق ، والأول أظهر ، ثم ترقى منه إلى ما هو أكثر لهم خيراً وأظهر في نفعهم من جعل الأرض قراراً وما عقبه ، فذكر جل وعلا ما لا يتم الإنبات المذكور إلا به مع منافع يتصاغر لديها منفعة الانبات ، وعقبه بجهلهم المطلق المنتج للعدول المذكور ، وأوسأ منه وأسوأ ، ثم بالغ في الترقي فذكر ما هو ليق بهم دون واسطة من دفع أو نفع فخص إجابتهم عند الاضطرار ، وعم بكشف السوء والمشار ، هذا فا يرجع إلى دفعه المحذور وإقامتهم خلفاء في الأرض ينتفعون بها وبما فيها كما أحبوا ، وهذا أتم من الأولين وأعم وأجل موقعاً وأهم ، ولهذا فصل بعدم التذكر وبولغ فيه تلك المبالغات ، وأما ذكر الهداية في ظلمات البر والبحر وذكر إرسال الرياح المبشرة استطراداً لمناسبة حديث الرياح مع الهداية في البحر ، فمن متممات الخلافة وإجابة المضطر وكشف السوء فافهم .

ونبه على هذا بأنه فصل بقوله تعالى : { تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ النمل : 63 ] ثم ختم ذلك كله بالإضراب عن هذا الأسلوب بتذكير نعمتي الإيجاد والإعادة ، فكل نعمة دونهما لتوقف النعم الدنيوية والأخروية عليها ، وعقبه بإجمال يتضمن جميع ما عدده أولاً وزيادة أعني رزقهم من السماء والأرض ، وأدمج في تأخيره أنه دون النعمتين ولهذا بكتهم بطلب البرهان فيما ليس وسجل بكذبهم دلالة على تعلقه بالكل وأن هذه الخاتمة ختام مسكي ، والمعرض عن تشام نفحاته مسكي ، وعن هذا التقرير ظهر وجه الإبدال مكشوف النقاب والحمد لله تعالى المنعم الوهاب اه .

/ وفي «غرة التنزيل » للراغب ما يؤيده ، وقد لخصه الطيبي في «شرح الكشاف » ، والله تعالى أعلم بأسرار كتابه