روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{الٓمٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة لقمان

أخرج ابن الضريس وإبن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : أنزلت سورة لقمان بمكة ولا استثناء في هذه الرواية وفي رواية النحاس في تاريخه عنه استثناء ثلاث آيات منها وهي ( ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ) إلى تمام الثلاث فإنها نزلن بالمدينة وذلك أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما هاجر قال له أحبار اليهود : بلغنا أنك تقول : ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) أعنيتنا أم قومك قال : كلا عنيت فقالوا : إنك تعلم أننا أوتينا التوراة وفيها بيان كل شيء فقال عليه الصلاة والسلام : ذلك في علم الله تعالى قليل فأنزل الآيات ونقل الداني عن عطاء وأبو حيان عن قتادة أنهما قالا : هي مكية إلا آيتين هما ( ولو أن ما في الأرض ) إلى آخر الآيتين وقيل : هي مكية إلا آية وهي قوله تعالى : ( الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ) فإن إيجابهما بالمدينة وأنت تعلم أن الصلاة فرضت بمكة ليلة الإسراء كما في صحيح البخاري وغيره فما ذكر من أن إيجابها بالمدينة غير مسلم ولو سلم فيكفي كونهم مأمورين بها بمكة ولو ندبا فلا يتم التقريب فيها نعم المشهور أن الزكاة إيجابها بالمدينة فلعل ذلك القائل أراد أن إيجابهما معا تحقق بالمدينة لا أن إيجاب كل منهما تحقق فيها ولا يضر في ذلك أن إيجاب الصلاة كان بمكة وقيل : إن الزكاة إيجابها كان بمكة كالصلاة وتقدير الأنصباء هو الذي كان بالمدينة وعليه لا تقريب فيهما وآيها ثلاث وثلاثون في المكي والمدني وأربع وثلاثون في عدد الباقين وسبب نزولها على ما في البحر أن قريشا سألت عن قصة لقمان مع ابنه وعن بر والديه فنزلت ووجه مناسبتها لما قبلها على ما فيه أيضا أنه قال تعالى فيما قبل : ( ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ) وأشار إلى ذلك في مفتتح هذه السورة وأنه كان في آخر ما قبلها ( ولئن جئتهم بآية ) وفيها ( وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا ) وقال الجلال السيوطي : ظهر لي في اتصالها بما قبلها مع المؤاخاة في الافتتاح بألم إن قوله تعالى : ( هدى ورحمة للمحسنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون ) متعلق بقوله تعالى : فيما قبل : ( وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث ) الآية فهذا عين إيقانهم بالآخرة وهم المحسنون الموصوفون بما ذكر وأيضا ففي كلتا السورتين جملة من الآيات وابتداء الخلق وذكر في السابقة ( في روضة يحبرون ) وقد فسر بالسماع وذكر هنا ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ) وقد فسر بالغناء وآلات الملاهي وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك وأقول في الاتصال أيضا : إنه قد ذكر فيما تقدم قوله تعالى : ( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ) وهنا قوله سبحانه : ( ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ) وكلاهما يفيد سهولة البعث وقرر ذلك هنا بقوله عز قائلا : ( إن الله سميع بصير ) وذكر سبحانه هناك قوله تعالى : ( وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون ) وقال عز وجل هنا : ( وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد ) فذكر سبحانه في كل من الآيتين قسما لم يذكره في الأخرى إلى غير ذلك وما ألطف هذا الاتصال من حيث أن السورة الأولى ذكر فيها مغلوبية الروم وغلبتهم المبنيتين على المحاربة بين ملكين عظيمين من ملوك الدنيا تحاربا عليها وخرج بذلك عن مقتضى الحكمة فإن الحكيم لا يحارب على دنيا دنية لا تعدل عند الله تعالى جناح بعوضة وهذه ذكر فيها قصة عبد مملوك على كثير من الأقوال حكيم زاهد في الدنيا غير مكترث بها ولا ملتفت إليها أوصى ابنه بما يأبى المحاربة ويقتضي الصبر والمسالمة وبين الأمرين من التقابل ما لا يخفى .

{ الم تِلْكَ ءايات الكتاب الحكيم } أي ذي الحكمة ، ووصف الكتاب بذلك عند بعض المغاربة مجاز لأن الوصف بذلك للتملك وهو لا يملك الحكمة بل يشتمل عليها ويتضمنها فلأجل ذلك وصف بالحكيم بمعنى ذي الحكمة ، واستظهر الطيبي أنه على ذلك من الاستعارة المكنية . والحق أنه من باب { عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ الحاقة : 1 2 ] على حد لابن وتامر .

نعم يجوز أن يكون هناك استعارة بالكناية أي الناطق بالحكمة كالحي ، ويجوز أن يكون الحكيم من صفاته عز وجل ووصف الكتاب به من باب الإسناد المجازي فإنه منه سبحانه بداً ، وقد يوصف الشيء بصفة مبدئه كما في قول الأعشى :

وغريبة تأتي الملوك حكيمة *** قد قلتها ليقال من ذا قالها

وأن يكون الأصل الحكيم منزله أو قائله فحذف المضاف إلى الضمير المجرور وأقيم المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعاً ثم استكن في الصفة المشبهة . وأن يكون { الحكيم } فعيلاً بمعنى مفعل كما قالوا : عقدت العسل فهو عقيد أي معقد وهذا قليل ، وقيل : هو بمعنى حاكم ، وتمام الكلام في هذه الآية قد تقدم في الكلام على نظيرها .

ومن باب الإشارة : في السورة الكريمة : { الم } [ لقمان : 1 ] إشارة إلى آلائه تعالى ولطفه جل شأنه ومجده عز وجل { الذين يُقِيمُونَ الصلاة } بحضور القلب والإعراض عن السوي وهي صلاة خواص الخواص ، وأما صلاة الخواص فبنفي الخطرات الردية والإرادات الدنيوية ولا يضر فيها طلب الجنة ونحوه ، وأما صلاة العوام فما يفعله أكثر الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم