{ واقصد فِى مَشْيِكَ } بعد الاجتناب عن المرح فيه أي توسط فيه بين الدبيب والإسراع من القصد وهو الاعتدال ، وجاء في عدة روايات إلا أن في أكثرها مقالاً يخرجها عن صلاحية الاحتجاج بها كما لا يخفى على من راجع شرح الجامع الصغير للمناوي عن النبي صلى الله عليه وسلم " سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن " أي هيبته وجماله أي تورثه حقارة في أعين الناس ، وكأن ذلك لأنها تدل على الخفة وهذا أقرب من قول المناوي لأنها تتعب فتغير البدن والهيئة .
وقال ابن مسعود : كانوا ينهون عن خبب اليهود ودبيب النصارى ولكن مشياً بين ذلك ، وما في النهاية من أن عائشة نظرت إلى رجل كاد يموت تخافتاً فقالت : ما لهذا ؟ فقيل : إنه من القراء فقالت : كان عمر رضي الله تعالى عنه سيد القراء وكان إذا مشى أسرع وإذا قال أسمع وإذا ضرب أوجع ، فالمراد بالإسراع فيه ما فوق دبيب المتماوت{[606]} وهو الذي يخفي صوته ويقل حركاته مما يتزيا بزي العباد كأنه يتكلف في اتصافه بما يقربه من صفات الأموات ليوهم أنه ضعف من كثرة العبادة فلا ينافي الآية ، وكذا ما ورد في صفته صلى الله عليه وسلم إذ يمشي كأنما ينحط من صبب وكذا لا ينافيها قوله تعالى : { وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الارض هَوْناً } [ الفرقان : 63 ] إذ ليس الهون فيه المشي كدبيب النمل ، وذكر بعض الأفاضل أن المذموم اعتياد الإسراع بالإفراط فيه ، وقال السخاوي : محل ذم الإسراع ما لم يخش من بطء السير تفويت أمر ديني ، لكن أنت تعلم أن الإسراع المذهب للخشوع لإدراك الركعة مع الإمام مثلاً مما قالوا إنه مما لا ينبغي فلا تغفل ، وعن مجاهد أن القصد في المشي التواضع فيه ، وقيل : جعل البصر موضع القدم ، والمعول عليه ما تقدم . وقرئ { واقصد } بقطع الهمزة ونسبها ابن خالويه للحجازي من أقصد الرامي إذا سدد سهمه نحو الرمية ووجهه إليها ليصيبها أي سدد في مشيك والمراد أمش مشياً حسناً ، وكأنه أريد التوسط به بين المشيين السريع والبطيء فتتوافق القراءتان { واغضض مِن صَوْتِكَ } أي انقص منه واقصر من قولك فلان يغض من فلان إذا قصر به ووضع منه وحط من درجته . وفي «البحر » الغضرد طموح الشيء كالصوت والنظر ويستعمل متعدياً بنفسه كما في قوله :
فغض الطرف إنك من نمير *** ومتعدياً بمن كما هو ظاهر قول الجوهري غض من صوته . والظاهر إن ما في الآية من الثاني ، وتكلف بعضهم جعل من فيها للتبعيض ، وادعى آخر كونها زائدة في الإثبات ، وكانت العرب تفتخر بجهارة الصوت وتمدح به في الجاهلية ومنه ، قول الشاعر :
جهير الكلام جهير العطاس *** جهير الرواء جهير النعم
ويخطو على العم خطو الظليم *** ويعلو الرجال بخلق عمم
والحكمة في غض الصوت المأمور به أنه أوفر للمتكلم وأبسط لنفس السامع وفهمه { إِنَّ أَنكَرَ الاصوات } أي أقبحها يقال وجه منكر أي قبيح قال في «البحر » : وهو أفعل بني من فعل المفعول كقولهم : أشغل من ذات النحيين وبناؤه من ذلك شاذ ، وقال بعض : أي أصعبها على السمع وأوحشها من نكر بالضم نكارة ومنه { يَوْمَ يَدْعُو الداع إلى شيء نُّكُرٍ } [ القمر : 6 ] أي أمر صعب لا يعرف ، والمراد بالأصوات أصوات الحيوانات أي إن أنكر أصوات الحيوانات { لَصَوْتُ الحمير } جمع حمار كما صرح به أهل اللغة ولم يخالف فيه غير السهيلي قال : أنه فعيل اسم جمع كالعبيد وقد يطلق على اسم الجمع الجمع عند اللغويين ، والجملة تعليل للأمر بالغض على أبلغ وجه وآكده حيث شبه الرافعون أصواتهم بالحمير وهم مثل في الذم البليغ والشتيمة ومثلت أصواتهم بالنهاق الذي أوله زفير وآخره شهيق ثم أخلي الكلام من لفظ التشبيه وأخرج مخرج الاستعارة ، وفي ذلك من المبالغة في الذم والتهجين والإفراط في التثبيط عن رفع الصوت والترغيب عنه ما فيه ، وإفراد الصوت مع جمع ما أضيف هو إليه للإشارة إلى قوة تشابه أصوات الحمير حتى كأنها صوت واحد هو أنكر الأصوات ، وقال الزمخشري أن ذلك لما أن المراد ليس بيان حال صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع بل بيان صوت هذا الجنس من بين أصوات سائر الأجناس ، قيل : فعلى هذا كان المناسب لصوت الحمار بتوحيد المضاف إليه . وأجيب بأن المقصود من الجمع التتميم والمبالغة في التنفير فإن الصوت إذا توافقت عليه الحمير كان أنكر . وأورد عليه أنه يوهم أن الأنكرية في التوافق دون الانفراد وهو لا يناسب المقام ، وأجيب بأنه لا يلتفت إلى مثل هذا التوهم ، وقيل : لم يجمع الصوت المضاف لأنه مصدر وهو لا يثنى ولا يجمع ما لم تقصد الأنواع كما في { أَنكَرَ الاصوات } فتأمل ، والظاهر أن قوله تعالى : { إِنَّ أَنكَرَ الاصوات لَصَوْتُ الحمير } من كلام لقمان لابنه تنفيراً له عن رفع الصوت ، وقيل : هو من كلام الله تعالى وانتهت وصية لقمان بقوله : { واغضض مِن صَوْتِكَ } رد سبحانه به على المشركين الذين كانوا يتفاخرون بجهارة الصوت ورفعه مع أن ذلك يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوة وربما يخرق الغشاء الذي هو داخل الأذن وبين عز وجل أن مثلهم في رفع أصواتهم مثل الحمير وأن مثل أصواتهم التي يرفعونها مثل نهاقها في الشدة مع القبح الموحش وهذا الذي يليق أن يجعل وجه شبه لا الخلو عن ذكر الله تعالى كما يتوهم بناءً على ما أخرج ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري قال : صياح كل شيء تسبيحه إلا لحمار لما أن وجه الشبه ينبغي أن يكون صفة ظاهرة وخلو صوت الحمار عن الذكر ليس كذلك ، على أنا لا نسلم صحة هذا الخبر فإن فيه ما فيه ، ومثله ما شاع بين الجهلة من أن نهيق الحمار لعن للشيعة الذين لا يزالون ينهقون بسب الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومثل هذا من الخرافات التي يمجها السمع ما عدا سمع طويل الأذنين ، والظاهر أن المراد بالغض من الصوت الغض منه عند التكلم والمحاورة ، وقيل : الغض من الصوت مطلقاً فيشمل الغض منه عند العطاس فلا ينبغي أن يرفع صوته عنده إن أمكنه عدم الرفع ، وروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ما يقتضيه ثم أن الغض ممدوح أن لم يدع داع شرعي إلى خلافه ، وأردف الأمر بالقصد في المشي بالأمر بالغض من الصوت لما أنه كثيراً ما يتوصل إلى المطلوب بالصوت بعد العجز عن التوصل إليه بالمشي كذا قيل ، هذا وأبعد بعضهم في الكلام على هذين الأمرين فقال : إن الأول إشارة إلى التوسط في الأفعال والثاني إشارة إلى الاحتراز من فضول الكلام والتوسط في الأقوال ، وجعل قوله تعالى : { إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ } [ لقمان : 61 ] الخ إشارة إلى إصلاح الضمير وهو كما ترى .
وقرأ ابن أبي عبلة { لَصَوْتُ الحمير } بالجمع بغير لام التأكيد .
ومن باب الإشارة : وقيل : { الحمير } في قوله تعالى : { إِنَّ أَنكَرَ الاصوات لَصَوْتُ الحمير } [ لقمان : 19 ] هم الصوفية الذين يتكلمون بلسان المعرفة قبل أن يؤذن لهم وطبق بعضهم جميع ما في القصة على ما في الأنفس .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.