هذا فريق من الأعراب يُظهر الإيمان ويُنفق في سبيل الله . وإنما يفعلون ذلك تقية وخوفاً من الغزو أو حباً للمحمدة وسلوكاً في مسلك الجماعة ، وهم يبطنون الكفر وينتظرون الفرصة التي تمكِّنهم من الانقلاب على أعقابهم . وهؤلاء وإن كانوا من جملة منافقي الأعراب فتخصيصهم بالتقسيم هنا منظور فيه إلى ما اختصوا به من أحوال النفاق ، لأن التقاسيم في المقامات الخَطابية والمجادلات تعتمد اختلافاً مَّا في أحوال المقسّم ، ولا يُعبأ فيها بدخول القسم في قسِيمه .
فقوله : { ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً } هو في التقسيم كقوله : { ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر } [ التوبة : 99 ] . ومعنى { يتخذ } يَعُد ويجعل ، لأن اتخذ من أخوات جعل . والجعل يطلق بمعنى التغيير من حالة إلى حالة نحو جعلت الشقة برداً . ويطلق بمعنى العد والحسبان نحو { وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً } [ النحل : 91 ] فكذلك { يَتخذ } هنا .
والمَغرم : ما يدفع من المال قهراً وظُلماً ، فهؤلاء الأعراب يؤتون الزكاة وينفقون في سبيل الله ويعُدون ذلك كالأتاوات المالية والرزايا يدفعونها تقية . ومن هؤلاء من امتنعوا من إعطاء الزكاة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال قائلهم من طيء في زمن أبي بكر لما جاءهم الساعي لإحصاء زكاة الأنعام :
فَقُولاَ لهذا المرءِ ذُو جاءَ ساعياً *** هَلُمَّ فإن المَشْرفيَّ الفرائض
أي فرائض الزكاة هي السيف ، أي يعطون الساعي ضربَ السيف بدلاً عن الزكاة .
والتربص : الانتظار . والدوائر : جمع دائرة وهي تغير الحالة من استقامة إلى اختلال . وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : { يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة } في سورة العقود ( 52 ) .
والباء للسببية كقوله تعالى : { نتربص به ريب المنون } [ الطور : 30 ] وجُعل المجرور بالباء ضمير المخاطبين على تقدير مضاف . والتقدير : ويتربص بسبب حالتكم الدوائر عليكم لظهور أن الدوائر لا تكون سبباً لانتظارِ الانقلاب بل حالهم هي سبب تربصهم أن تنقلب عليهم الحال لأن حالتهم الحاضرة شديدة عليهم .
فالمعنى أنهم ينتظرون ضعفكم وهزيمتكم أو ينتظرون وفاة نبيكم فيظهرون ما هو كامن فيهم من الكفر . وقد أنبأ الله بحالهم التي ظهرت عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وهم أهل الردة من العرب .
وجملة : { عليهم دائرة السوء } دعاء عليهم وتحقير ، ولذلك فُصلت . والدعاء من الله على خلقه : تكوين وتقدير مشوبٌ بإهانة لأنه لا يعجزه شيء فلا يحتاج إلى تمني ما يريده . وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى : { فلعنة الله على الكافرين } في سورة البقرة ( 89 ) .
وقد كانت على الأعراب دائرة السوء إذ قاتلهم المسلمون في خلافة أبي بكر عام الردة وهزموهم فرجعوا خائبين . وإضافة { دائرة } إلى { السوء } من الإضافة إلى الوصف اللازم كقولهم : عِشاءُ الآخِرة . إذ الدائرة لا تكون إلا في السوء . قال أبو علي الفارسي : لو لم تضف الدائرة إلى السوء عُرف منها معنى السوء لأن دائرة الدهر لا تستعمل إلا في المكروه . ونظيره إضافة السوء إلى ذئب في قول الفرزدق :
فكنتَ كذئب السَّوء حين رأى دَماً *** بصاحبه يوماً أحال على الدم
إذ الذئب متمحض للسوء إذ لا خير فيه للناس . والسَّوء بفتح السين المصدر ، وبضمها الاسم . وقد قرأ الجمهور بفتح السين . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحدهما بضم السين . والمعنى واحد .
وجملة : { والله سميع عليم } تذييل ، أي سميع ما يتناجون به وما يدبرونه من الترصد ، عليم بما يبطنونه ويقصدون إخفاءه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق} في سبيل الله {مغرما} لا يحتسبها، كأن نفقته غرم يغرمها..
{ويتربص بكم الدوائر}، يعني يتربص بمحمد الموت، يقول: يموت فنستريح منه ولا نعطيه أموالنا، ثم قال: {عليهم} بمقالتهم {دائرة السوء}... {والله سميع} لمقالتهم، {عليم} بها...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ومن الأعراب من يَعُدّ نفقته التي ينفقها في جهاد مشرك أو في معونة مسلم أو في بعض ما ندب الله إليه عباده "مَغْرما "يعني غُرْما لزمه لا يرجو له ثوابا ولا يدفع به عن نفسه عقابا، "وَيَترَبّص بِكُمُ الدّوَائِرَ" يقول: وينتظرون بكم الدوائر أن تدور بها الأيام والليالي إلى مكروه ونفي محبوب، وغلبة عدوّ لكم. يقول الله تعالى ذكره: "عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السّوْءِ" يقول: جعل الله دائرة السوء عليهم، ونزول المكروه بهم لا عليكم أيها المؤمنون، ولا بكم، "والله سميع" لدعاء الداعين، "عليم" بتدبيرهم وما هو بهم نازل من عقاب الله وما هم إليه صائرون من أليم عقابه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ينفق ولا يراه حقا، إنما يراه غرمًا يلحقه، وغرما يغرمه.
وأصله: أنهم لو كانوا علموا حقيقة أنهم وما حوته أيديهم لله ليس لهم، لم يعدوا ذلك غرمًا وتبعة ألحقتهم، ولكن لما لم يروا لله تعالى في أموالهم حقّا ولم يعلموا أن أموالهم لله حقيقة لا لهم عدوا ذلك غرمًا وتبعة.
وقوله -عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ).
قيل: الدوائر: هو انقلاب الأمر، وهو من الدوران.
ثم يحتمل قوله: (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ): ما قَالَ بَعْضُهُمْ: موت مُحَمَّد.
(عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ)، أي: عليهم انقلاب الأمر وعليهم ما تربصوا على المؤمنين.
وقوله: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ): لما قال، (عَلِيمٌ): بما أسروا وأضمروا.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
المغرم: التزام ما لا يلزم، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} [الفرقان: 65] أي لازماً..
{وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} جمع دائرة وهي انقلاب النعمة إلى ضدها، مأخوذة من الدور ويحتمل تربصهم الدوائر وجهين: أحدهما: في إعلان الكفر والعصيان. والثاني: في انتهاز الفرصة بالانتقام.
{عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} رد لما أضمروا وجزاء لما مكروا.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
...الغرم: لزوم نائبة في المال من غير جناية، ومنه قوله "فهم من مغرم مثقلون"..
وقوله "ويتربص بكم الدوائر "فالتربص: التمسك بالشيء لعاقبة..
والدائرة جمعها دوائر وهي العواقب المذمومة. وقال الفراء والزجاج: كانوا يتربصون بهم الموت والقتل، وإنما خص رفع النعمة بالدوائر دون رفع النقمة، لأن النعمة أغلب وأعم لأن كل واحد لا يخلو من نعم الله وليس كذلك النقمة، لأنها خاصة، والنعمة عامة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
خَبُثَت عقائدُهم فانتظروا للمسلمين ما تعلقت به مناهم من حلول المِحن بهم، فأبى اللهُ إلا أن يَحيقَ بهم مكرُهم، ولهذا قيل في المثل: إذا حَفَرْتَ لأخيك فَوَسِّعْ فربما يكون ذلك مقيلَك!
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مَغْرَمًا}: غرامة وخسراناً. والغرامة: ما ينفقه الرجل وليس يلزمه، لأنه لا ينفق إلاّ تقية من المسلمين ورياء، لا لوجه الله عزّ وجلّ وابتغاء المثوبة عنده، {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر} دوائر الزمان: دوله وعقبه لتذهب غلبتكم عليه ليتخلص من إعطاء الصدقة. {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء} دعاء معترض، دعا عليهم بنحو ما دعوا به، كقوله عزّ وجلّ: {قَالَتْ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: 64] وقرىء «السُّوء» بالضم وهو العذاب، كما قيل له سيئة. والسوء بالفتح، وهو ذمّ للدائرة، كقولك: رجل سوء، في نقيض قولك: رجل صدق، لأنّ من دارت عليه ذامّ لها {والله سَمِيعٌ} لما يقولون إذا توجهت عليهم الصدقة {عَلِيمٌ} بما يضمرون.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{يتخذ} في هذه الآيات أي يجعل مقصده ولا ينوي فيه غير ذلك، وأصل «المغرم» الديْن، ومنه تعوذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من المغرم والمأثم، ولكن كثر استعمال المغرم فيما يؤديه الإنسان مما لا يلزمه بحق..
{الدوائر} المصائب التي لا مخلص للإنسان منها فهي تحيط به كما تحيط الدائرة..
ثم قال على جهة الدعاء {عليهم دائرة السوء} وكل ما كان بلفظ دعاء من جهة الله عز وجل فإنما هو بمعنى إيجاب الشيء، لأن الله لا يدعو على مخلوقاته وهي في قبضته، ومن هذا {ويل لكل همزة لمزة} و {ويل للمطففين}، فهي كلها أحكام تامة تضمنها خبره تعالى..
{عليهم دائرة السوء} والدائرة يجوز أن تكون واحدة، ويجوز أن تكون صفة غالبة...قال أبو علي الفارسي: لو لم تضف الدائرة إلى السوء أو السوء عرف منها معنى السوء، لأن دائرة الدهر لا تستعمل إلا في المكروه. إذا عرفت هذا فنقول: المعنى يدور عليهم البلاء والحزن، فلا يرون في محمد عليه الصلاة والسلام ودينه إلا ما يسوءهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{من يتخذ} أي يتكلف غير ما تدعو إليه الفطرة الأولى من الأريحية والهمم العلية بأن يعد {ما ينفق مغرماً}..
{ويتربص} أي يكلف نفسه الربص، وهو أن يسكن ويصبر وينتظر {بكم الدوائر}..
{عليهم دائرة السوء} أي دائماً لا تنفك إما بإذلال الإسلام وإما بعذاب الاصطلام، فهم فيما أرادوه بكم على الدوام..
ولما كان الانتقام من الأعداء وإيقاع البأس بهم لا يتوقف من القادر غالباً إلا على سماع أخبارهم والعلم بها، جرت سنته تعالى في ختم مثل ذلك بقوله: {والله} أي الملك الأعلى الذي له الإحاطة الكاملة {سميع} يسمع ما يقولون {عليم}...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما} تقدم في الآية 90 أن بعض الأعراب جاءوا النبي صلى الله عليه وسلم معذرين ليأذن لهم في القعود عن غزوة تبوك، وذكر في هذه الآية حال الذين كانوا ينفقون بعض أموالهم في سبيل الجهاد رياء وتقية فيعدون ما ينفقون من المغارم، وهي ما يلزمه المرء مما يثقل عليه فيلتزمه كرها أو طوعا لدفع مكروه عن نفسه أو عن قومه له فيه منفعة ذاتية. ولم يكن هؤلاء الأعراب المنافقون يرجون بهذه النفقة جزاء في الآخرة لأنهم لا يؤمنون بالبعث. ولهذا قال الضحاك: يعني بالمغرم أنه لا يرجو ثوابا عند الله ولا مجازاة، وإنما يعطي ما يعطي من الصدقات كرها. وعن ابن زيد: إنما ينفقون رياء اتقاء أن يغزوا ويحاربوا ويقاتلوا ويرون نفقاتهم مغرما [قال]: وهم بنو أسد وغطفان.
{ويتربص بكم الدوائر} أي ينتظرون دوائر الزمان، أي تصاريفه ونوائبه التي تدور بالناس وتحيط بهم بشرورها أن تنزل بكم فتبدل قوتكم ضعفا، وعزكم ذلا، وانتصاركم هزيمة وكسرا، فيستربحوا من أداء هذه المغارم لكم، بالتبع للخروج من طاعتكم، والاستغناء عن إظهار الإسلام نفاقا لكم، كانوا أولا يتوقعون ظهور المشركين واليهود على المؤمنين، فلما يئسوا من ذلك صاروا ينتظرون موت النبي صلى الله عليه وسلم ويظنون أن الإسلام يموت بموته صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله. وهكذا يعلل الجاهل الضعيف نفسه الخبيثة بالأماني والأوهام.
وإذا كان منافقو المدينة الذين هم أجدر من هؤلاء الأعراب أن يعلموا ما في الإسلام من القوة الذاتية، وما في اعتصام المؤمنين الصادقين به من القوة الحربية، كانوا يتربصون بالمؤمنين الهزيمة من الروم في تبوك، وكانوا إن أصاب النبي صلى الله عليه وسلم مصيبة مما لا يخلو عنه البشر يفرحون ويقولون (قد أخذنا أمرنا من قبل) أي احتطنا لهذه العاقبة قبل وقوعها، فهل يستغرب مثل هذا التربص من الأعراب سكان البادية الذين يجهلون ما ذكر؟ (راجع تفسير الآيات 50 54 من هذه السورة).
{عليهم دائرة السوء} دعاء عليهم بما يتربصونه بالمؤمنين، أو خبر بحقيقة حالهم معهم، ومآل الاحتمالين واحد، لأن الخبر في كلامه تعالى حق ومضمونه كمضمون الدعاء واقع، ما له من دافع، والدعاء منه عز وجل يراد به مآله وهو وقوع السوء عليهم وإحاطته بهم. والسوء بالفتح في قراءة الجمهور، وهو مصدر ساءه الأمر ضد سره، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ههنا وفي سورة الفتح بالضم، وهو اسم لما يسوء. والإضافة: كرجل صدق وقدم صدق. وتقديم الخبر يفيد الحصر أي عليهم وحدهم دائرة السوء تحيط بهم دون المؤمنين الذين يتربصونها بهم، فإن هؤلاء لا عاقبة لهم تتربص بهم إلا ما يسرهم ويفرحهم من نصر الله وتوفيقه لهم، وما يسوء أعداءهم من خذلان وخيبة وتعذيب لهم في الدنيا قبل الآخرة حتى بأموالهم وأولادهم، كما تقدم في قوله تعالى: {قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين} [التوبة: 52] وقوله: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم} [التوبة: 55].
{والله سميع عليم} لا يخفى عليه شيء من أقوالهم المعبرة عن شعورهم واعتقادهم في نفقاتهم إذا تحدثوا بها فيما بينهم، وأقوالهم التي يقولونها للرسول أو لعماله على الصدقات، أو لغيرهم من المؤمنين مراءاة لهم، ولا من أعمالهم التي يعملونها، ومن نياتهم وسرائرهم التي يخلونها، فهو سيحاسبهم على ما يسمع ويعلم أي على كل قول وفعل ويجزيهم به.