اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغۡرَمٗا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَآئِرَۚ عَلَيۡهِمۡ دَآئِرَةُ ٱلسَّوۡءِۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (98)

قوله تعالى : { وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً } .

نزلت في أعراب أسد وغطفان وتميم . " مَنْ " مبتدأ ، وهي إما موصولةٌ ، وإمَّا موصوفةٌ .

و " مَغْرَماً " مفعول ثانٍ ؛ لأنَّ " اتَّخَذَ " هنا بمعنى " صيَّر " . والمَغْرَمُ : الخسران ، مشتق من الغرام ، وهو الهلاك ؛ لأنَّه سببه ، ومنه : { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } [ الفرقان : 65 ] . وقيل أصله الملازمةُ ، ومنه الغريمُ : للزومه من يطالبه ، والمغرم : مصدر كالغرامةِ ، والمغرم التزام ما لا يلزمُ . قال عطاءٌ : لا يرجُون على إعطائه ثواباً ؛ ولا يخافون على إمساكه عقاباً ، وإنَّما ينفقُ مغرماً ورياءً{[18059]} . و " يتربَّصُ " عطفٌ على " يتَّخِذ " ، فهو إمَّا صلة ، وإما صفة . والتَّربُّصُ : الانتظارُ . وقوله : { بِكُمُ الدوائر } فيه وجهان :

أظهرهما : أنَّ الياء متعلقةٌ بالفعل قبلها .

والثاني : أنها حالٌ من " الدَّوائر " قاله أبو البقاءِ وليس بظاهرٍ ، وعلى هذا يتعلقُ بمحذوفٍ على ما تقرَّر . و " الدَّوائرِ " جمعُ " دائرةٍ " وهي ما يُحيط بالإنسان من مُصيبة ونكْبَةٍ ، تصوُّراً من الدَّائرة المحيطة بالشَّيء من غير انفلاتٍ منها ، وأصلها : " دَاوِرَة " ؛ لأنَّها من دَارَ يدُورُ ، أي : أحَاطَ ، ومعنى " تَربُّص الدَّوائر " أي : انتظار المصائب ؛ قال : [ الطويل ]

تَربَّصْ بهَا رَيْبَ المنُونِ لعلَّها *** تُطلَّقُ يوْماً أو يَمُوتُ حليلُهَا{[18060]}

قال يمانُ بن رئابٍ : " يعني ينقلبُ الزَّمانُ عليكم فيموت الرسول صلى الله عليه وسلم ويظهر المشركون " . قوله : { عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء } هذه الجملةُ معترضةٌ بين جمل هذه القصَّةِ ، وهي دعاءٌ على الأعراب المتقدمين ، وقرأ ابنُ كثير{[18061]} وأبو عمرو هنا : " السُّوءِ " ، وكذا الثانية في الفتحِ بالضَّم والباقون بالفتحِ .

وأمَّا الأولى في الفتح ، وهي " ظنَّ السوءِ " .

فاتفق على فتحها السبعةُ . فأمَّا المفتوح فقيل : هو مصدر .

قال الفرَّاءُ{[18062]} : " فتحُ السِّين هو الوجه ؛ لأنَّه مصدرٌ يقالُ : سُؤتُه سَوْءاً ، ومَساءةٌ ، وسَوائِيَةٌ ، ومَسَائِيَةٌ ، وبالضَّم الاسم ، كقولك : عليهم دائرةُ البلاءِ والعذاب " .

قال أبُو البقاء : " وهو الضَّرَرُ ، وهو مصدر في الحقيقة " . يعني أنَّه في الأصل كالمفتوح ، في أنَّهُ مصدرٌ ، ثُمَّ أطلقَ على كل ضررٍ وشرٍّ . وقال مكي : " مَنْ فتح السِّين فمعناه الفساد والرَّداءة ، ومنْ ضمَّها فمعناه الهزيمةُ والبلاءُ والضَّرر " . وظاهرُ هذا أنَّهما اسمان لما ذكر . ويحتملُ أن يكونا في الأصل مصدراً ثم أطلقا على ما ذكر . وقال غيره : المضمومُ العذاب والضرر ، والمفتوح : الذم ، ألا ترى أنَّه أجمع على فتح { ظَنَّ السوء } [ الفتح : 6 ] وقوله : { مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ } [ مريم : 28 ] ، إذ لا يليقُ ذكرُ العذاب بهذين الموضعين . وقال الزمخشري فأحسن : " المضمومُ : العذاب ، والمفتوحُ ذمٌّ ل " دائرة " كقولك : رجُل سوءٍ ، في نقيض رجل عدل ؛ لأنَّ منْ دَارتْ عليه يذُمُّهَا " . يعني أنَّها من باب إضافة الموصوف إلى صفته ، فوصفت في الأصل بالمصدر مبالغةً ، ثم أضيفَتْ لصفتها ، كقوله تعالى : { مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ } [ مريم : 28 ] . قال أبُو حيَّان " وقد حكي بالضَّمِّ " ؛ وأنشد الأخفشُ : [ الطويل ]

وكُنْتَ كَذِئْبِ السُّوءِ لمَّا رَأى دَماً *** بِصَاحبهِ يَوْماً أحَالَ عَلى الدَّمِ{[18063]}

وفي " الدائرة " مذهبان :

أظهرهما : أنها صفةٌ على فاعلة ، ك " قائمة " . وقال الفارسيُّ : " يجوز أن تكون مصدراً كالعافية ، ولو لم تضف الدائرة إلى السوء ، أو السوء لما عرف منها معنى السُّوء ؛ لأنَّ دائرة الدَّهر لا تستعملُ إلاَّ في المكروهِ ، والمعنى : يدور عليهم البلاءُ والحزنُ ، فلا يرون في محمد ، ودينه إلاَّ ما يَسُوؤهم " . ثم قال : { والله سَمِيعٌ } لقولهم ، { عَلِيمٌ } بنيَّاتهم .


[18059]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/320).
[18060]:تقدم.
[18061]:ينظر: السبعة ص (316)، الحجة للقراء السبعة 4/206-209، حجة القراءات ص (321)، إعراب القراءات 1/252، إتحاف 2/96.
[18062]:ينظر: معاني القرآن لفراء 1/450.
[18063]:البيت للفرزدق ينظر: ديوانه 2/187، جامع البيان 14/431، التهذيب 5/246 العقد الفريد 6/242، التفسير الكبير 6/167، معاني الأخفش 2/559 اللسان (حول)، الدر المصون 3/496.