البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَمِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغۡرَمٗا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَآئِرَۚ عَلَيۡهِمۡ دَآئِرَةُ ٱلسَّوۡءِۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (98)

{ ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم } : نزلت في أعراب أسد ، وغطفان ، وتميم ، كانوا يتخذون ما يؤخذ منهم من الصدقات .

وقيل : من الزكاة ، ولذلك قال بعضهم : ما هي إلا جزية أو قريبة من الجزية .

وقيل : كل نفقة لا تهواها أنفسهم وهي مطلوبة شرعاً ، وهو ما ينفقه الرجل وليس يلزمه ، لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياء ، لا لوجه الله تعالى وابتغاء المثوبة عنده .

فعل هذا المغرم إلزام ما لا يلزم .

وقيل : المغرم الغرم والخسر ، وهو قول : ابن قتيبة ، وقريب من الذي قبله .

وقال ابن فارس : المغرم ما لزم أصحابه والغرام اللازم ، ومنه الغريم للزومه وإلحاحه .

والتربص : الانتظار .

والدوائر : هي المصائب التي لا مخلص منها ، تحيط به كما تحيط الدائرة .

وقيل : تربص الدوائر هنا موت الرسول صلى الله عليه وسلم وظهور الشرك .

وقال الشاعر :

تربص بها ريب المنون لعلها *** تطلق يوماً أو يموت حليلها

وتربص الدوائر ليخلصوا من إعياء النفقة ، وقوله : عليهم دائرة السوء ، دعا معترض ، دعاء عليهم بنسبة ما أخبر به عنهم كقوله : { وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم } والدعاء من الله هو بمعنى إنجاب الشيء ، لأنه تعالى لا يدعو على مخلوقاته وهي في قبضته .

وقال الكرماني : عليهم تدور المصائب والحروب التي يتوقعونها على المسلمين ، وهنا وعد للمسلمين وإخبار .

وقيل : دعاء أي : قولوا عليهم دائرة السوء أي المكروه ، وحقيقة الدائرة ما تدور به الأيام .

وقيل : يدور به الفلك في سيره ، والدوائر انقلاب النعمة إلى ضدها .

وفي الحجة يجوز أن تكون الدائرة مصدراً كالعاقبة ، ويجوز أن تكون صفة .

وقرأ ابن كثير وأبو عمر : والسوء هنا .

وفي سورة الفتح ثانية بالضم ، وباقي السبعة بالفتح ، فالفتح مصدر .

قال الفراء : سوأته سوأ ومساءة وسوائية ، والضم الاسم وهو الشر والعذاب ، والفتح ذم الدائرة وهو من باب إضافة الموصوف إلى صفته ، وصفت الدائرة بالمصدر كما قالوا : رجل سوء في نقيض رجل صدق ، يعنون في هذا الصلاح لا صدق اللسان ، وفي ذلك الفساد .

ومنه { ما كان أبوك أمرأ سوء } أي أمرأً فاسداً .

وقال المبرد : لسوء بالفتح الرداءة ، ولا يجوز ضم السين في رجل سوء ، قاله أكثرهم .

وقد حكي بالضم وقال الشاعر :

وكنت كذيب السوء لما رأى دما ***

بصاحبه يوماً أحال على الدم

والله سميع لأقوالهم عليم بنياتهم .