إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَمِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغۡرَمٗا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَآئِرَۚ عَلَيۡهِمۡ دَآئِرَةُ ٱلسَّوۡءِۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (98)

{ وَمِنَ الإعراب } شروعٌ في بيان تشعّبِ جنسِ الأعرابِ إلى فريقين وعدم انحصارِهم في الفريق المذكورِ كما يتراءى من ظاهر النظم الكريم ، وشرحٌ لبعض مثالبِ هؤلاء المتفرعةِ على الكفر والنفاق بعد بيانِ تماديهم فيهما ، وحملُ الأعراب على الفريق المذكورِ خاصةً وإن ساعده كونُ من يحكي حالَه بعضاً منهم وهم الذين بصدد الإنفاقِ من أهل النفاقِ دون فقرائِهم أو أعرابِ أسدٍ وغطفانَ وتميم كما قيل لكن لا يساعده ما سيأتي من قوله تعالى : { وَمِنَ الإعراب مَن يُؤْمِنُ } الخ ، فإن أولئك ليسوا من هؤلاء قطعاً وإنما هم من الجنس أي ومن جنس الأعرابِ الذي نُعت بنعت بعضِ أفردِه { مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ } من المال أي يعُدّ ما يصرِفه في سبيل الله ويتصدق به صورةً { مَغْرَمًا } أي غرامةً وخُسراناً لازماً إذ لا ينفقه احتساباً ورجاءً لثواب الله تعالى ليكون له مغنماً وإنما ينفقه رياءً وتقيّةً فهي غرامةٌ محضةٌ ، وما في صيغة الاتخاذِ من معنى الاختيارِ والانتفاعِ بما يتخذ إنما هو باعتبار غرضِ المنفقِ من الرياء والتقيةِ لا باعتبار ذاتٍ منفِقَةٍ أعني كونَها غرامة { وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر } أصلُ الدائرة ما يحيط بالشيء والمرادُ ما لا محيص عنه من مصائب الدهرِ أي ينتظر بكم دوائرَ الدهرِ ونُوَبَه ودَوَلَه ليذهب غلَبتُكم عليه فليتخلص مما ابتُلي به { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء } دعاءٌ عليهم بنحو ما أرادوا بالمؤمنين على نهج الاعتراض كقوله سبحانه : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } [ المائدة ، الآية 64 ] بعد قول اليهود ما قالوا والسوءُ مصدرٌ ثم أطلق على كل ضُرَ وشر وأضيفت إليه الدائرةُ ذماً كما يقال : رجلُ سوءٍ لأن مَن دارت عليه يذمّها ، وهي من باب إضافةِ الموصوفِ إلى صفتِه فوصفت في الأصل بالمصدر مبالغةً ثم أضيفت إلى صفتِها كقوله عز وجل : { مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْء } [ مريم ، الآية 28 ] وقيل : معنى الدائرةِ يقتضي معنى السَّوءِ فإنما هي إضافةُ بيانٍ وتأكيدٍ كما قالوا : «شمسُ النهارِ ولَحْيا{[371]} رأسِه » وقرئ بالضم وهو العذابُ كما قيل له سيئة { والله سَمِيعٌ } لما يقولونه عند الإنفاقِ مما لا خيرَ فيه { عَلِيمٌ } بما يُضمِرونه من الأمور الفاسدةِ التي من جملتها أن يتربّصوا بكم الدوائرَ وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى .


[371]:اللحيان: حائطا الفم، وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان من داخل الفم.