الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَمِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغۡرَمٗا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَآئِرَۚ عَلَيۡهِمۡ دَآئِرَةُ ٱلسَّوۡءِۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (98)

قوله تعالى : { مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً } : " مَنْ " مبتدأ وهي : إمَّا موصولةٌ وإمَّا موصوفةٌ . ومَغْرَماً مفعول ثانٍ لأنَّ " اتخذ " هنا بمعنى صَيَّر . والمَغْرَمُ : الخُسْران ، مشتق مِنَ الغَرام وهو الهلاك لأنه سيئةٌ ، ومنه

{ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } [ الفرقان : 65 ] . وقيل : أصلُه الملازمةُ ومنه " الغَريمُ " للزومه مَنْ يطالبه .

قوله : { وَيَتَرَبَّصُ } عطفٌ على " يَتَّخِذ " فهو : إمَّا صلة وإمَّا صفة . والتربُّصُ : الانتظار . والدوائر : جمعُ دائرة ، وهي ما يُحيط بالإِنسان مِنْ مصيبة ونكبة ، تصوُّراً من الدائرة المحيطةِ بالشيء من غير انفلاتٍ منها . وأصلها داوِرَة لأنها مِنْ دار يدور ، أي : أحاط . ومعنى " تربُّص الدوائر " ، أي : انتظار المصائب قال :

2536 تَرَبَّصْ بها رَيْبَ المَنون لعلها *** تُطَلَّقُ يوماً أو يموتُ حليلُها

قوله : { عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ } هذه الجملةُ معترضة بين جمل هذه القصة وهي دعاءٌ على الأعراب المتقدمين ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا " السُّوء " وكذا الثانية في الفتح بالضم ، والباقون بالفتح . وأما الأولى في الفتح وهي " ظنَّ السَّوْ " فاتفق على فتحها السبعة . فأما المفتوح ، فقيل : هو مصدر . قال الفراء : " يقال : سُؤْتُه سُوْءاً ومَساءةً وسَوائِية ومَسَائِية ، وبالضم الاسم " قال أبو البقاء : " وهو الضَّرر وهو مصدر في الحقيقة " . قلت : يعني أنه في الأصل كالمفتوح في أنه مصدرٌ ثم أُطْلِق على كل ضررٍ وشرٍّ . وقال مكي : " مَنْ فتح السينَ فمعناه الفساد والرداءة ، ومَنْ ضمَّها فمعناه الهزيمةُ والبلاءُ والضرر " . وظاهر هذا أنهما اسمان لِما ذكر ، ويحتمل أن يكونا في الأصل مصدراً ثم أُطْلِقا على ما ذكر . وقال غيرُه : الضموم : العذاب والضرر ، والمفتوح : الذم ، ألا ترى أنه أْجُمع على فتح { ظَنَّ السَّوْءِ } [ الفتح : 6 ] وقوله : { مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ }

[ مريم : 28 ] ولا يليق ذِكْرُ العذاب بهذين الموضعين .

وقال الزمخشري فأحسن : " المضموم : العذاب ، والمفتوحُ ذمٌّ لدائرة ، كقولك : " رجلُ سَوْء " في نقيض " رجل عدل " ، لأنَّ مَنْ دارَتْ عليه يَذُمُّها " يعني أنها من باب إضافة الموصووف إلى صفته فوُصِفَتْ في الأصل بالمصدر مبالغةً ، ثم أُضِيْفَتْ لصفتِها كقولِه تعالى : { مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ } [ مريم : 28 ] . قال الشيخ : " وقد حُكي بالضم " وأنشد :

2537 وكنت كذئبِ السُّوء لمَّا رأى دماً *** بصاحبه يوماً أحال على الدَّم

وفي الدائرة مذهبان أظهرهُما : أنها صفةٌ على فاعِلة كقائمة . وقال الفارسي : " إنها يجوز أن تكون مصدراً كالعافية " .

وقوله : { بِكُمُ الدَّوَائِرَ } فيه وجهان ، أظهرهُما : أن الباء متعلقة بالفعلِ قبلها . والثاني : أنها حالٌ من " الدوائر " قاله أبو البقاء . وليس بظاهرٍ ، وعلى هذا فيتعلَّقُ/ بمحذوف على ما تقرر غير مرة .