التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{رُدُّوهَا عَلَيَّۖ فَطَفِقَ مَسۡحَۢا بِٱلسُّوقِ وَٱلۡأَعۡنَاقِ} (33)

والخطاب في قوله : { رُدّوها عليَّ } لسواس خيله . والضمير المنصوب عائد إلى الخيل بالقرينة ، أي أرجعوا الخيل إليّ ، وقيل : هو عائد إلى الشمس والخطاب للملائكة ، وهذا في غاية البعد ولولا كثرة ذكره في كتب المفسرين لكان الأولى بنا عدم التعرض له . وأحسن منه على هذا الاعتبار في معاد ضمير الغيبة أن يكون الأمر مستعملاً في التعجيز ، أي هل تستطيعون أن تردوا الشمس بعد غروبها ، كقول مهلهل :

يَا لَبَكْر انشروا لي كليبا

وقول الحارث الضبي أحد أصحاب الجمل :

رُدوا علينا شيخَنا ثم بَجل

يريد : عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فلا استبعاد في هذا المحمل . والفاء في قوله : { فَطَفِقَ } تعقيبية ، وطفق من أفعال الشروع ، أي فشرع .

و { مَسْحاً } مصدر أقيم مقام الفعل ، أي طفق يمسح مَسحاً . وحرف التعريف في { بالسُّوققِ والأعناقِ } عوض عن المضاف إليه ، أي بسوقها وأعناقها كقوله تعالى : { فإن الجنة هي المأوى } [ النازعات : 41 ] . والمسح حقيقته : إمرار اليد على الشيء لإِزالة ما عليه من غبش أو ماء أو غبار وغير ذلك مما لا يراد بقاؤه على الشيء ويكون باليد وبخرقة أو ثوب ، وقد يطلق المسح مجازاً على معان منها : الضرب بالسيف يقال : مسحه بالسيف . ويقال : مسحَ السيفَ به . ولعل أصله كناية عن القتل بالسيف لأن السيف يمسح عنه الدم بعد الضرب به .

والسُّوق : جمع ساق . وقرأه الجمهور بواو ساكنة وبوزن فُعْل مثل : دار ودُور ، ووزن فُعل في جمع مثلِه قليل . وقرأه قنبل عن ابن كثير وأبو جعفر « السُّؤق » بهمزة ساكنة بعد السين جمع : سأق بهمزة بعد السين وهي لغة في ساق .

و { الأعناق } : جمع عنق وهو الرقبة . والباء في { بالسُّوقِ } مزيدة للتأكيد ، أي تأكيد اتصال الفعل بمفعوله كالتي في قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] وفي قول النابغة :

لك الخير إن وارت بك الأرض واحدا *** وأصبح جد الناس يضلع عاثرا

وقد تردد المفسرون في المعنى الذي عنى بقوله : { فَطَفِق مسْحَاً بالسُّوقِ والأعناقِ } . فعن ابن عباس والزهري وابن كيسان وقطرب : طفق يمسح أعراف الخيل وسوقها بيده حُبًّا لها . وهذا هو الجاري على المناسب لمقام نبيءٍ والأوفق بحقيقة المسح ولكنه يقتضي إجراء ترتيب الجمل على خلاف مقتضى الظاهر بأن يكون قوله : { رُدُّوهَا عليَّ فطفق مسحاً بالسوق والأعناق } متصلاً بقوله : { إذ عرض عليه بالعشي الصافنات } أي بعد أن استعرضها وانصرفوا بها لتأوي إلى مذاودها قال : { ردُّوها عليَّ فطفق مسحاً بالسوق والأعناقِ } إكراماً لها ولحبها .

ويجعل قوله : { فقَالَ إني أحببتُ حبَّ الخيرِ عن ذِكرِ ربي حتى توارتْ بالحجابِ } معترضاً بينهما ، وإنما قدم للتعجيل بذكر ندمه على تفريطه في ذكر الله في بعض أوقات ذكره ، أي أنه لم يستغرق في الذهول بل بادر الذكرى بمجرد فوات وقت الذكر الذي اعتاده ، إذ لا يناسب أن يكون قوله : { ردوها عليَّ فطفِقَ } الخ من آثار ندمه وتحسّره على هذا التفسير ، وهذا يفيد أن فوات وقت ذكره نشأ عن ذلك الرد الذي أمر به بقوله : { ردُّها عليَّ } فإنهم اعتادوا أن يعرضوها عليه وينصرفوا وقد بَقي ما يكفي من الوقت للذكر فلما حملته بهجته بها على أن أمر بإرجاعها واشتغل بمسح أعناقها وسُوقها خرج وقت ذكره فتندّم وتحسّر .

وعن الحسن وقتادة ومالك بن أنس في رواية ابننِ وَهب والفراء وثعلب : أن سليمان لما ندِم على اشتغاله بالخيل حتى أضاع ذكر الله في وقت كان يذكر الله فيه أمر أن تُردّ عليه الخيل التي شغلتْه فجعل يعرقب سوقها ويقطع أعناقها لحرمان نفسه منها مع محبته إياها توبة منه وتربية لنفسه . واستشعروا أن هذا فساد في الأرض وإضاعة للمال فأجابوا : بأنه أراد ذبحها ليأكلها الفقراء لأن أكل الخيل مباح عندهم وبذلك لم يكن ذبحها فساداً في الأرض .

وتجنّب بعضهم هذا الوجه وجعل المسح مستعاراً للتوسيم بسمة الخيل الموقوفة في سبيل الله بكي نار أو كَشط جلد لأن ذلك يزيل الجلدة الرقيقة التي على ظاهر الجلد ، فشبهت تلك الإِزالة بإِزالة المَسح ما على ظهر الممسوح من ملتصق به ، وهذا أسلم عن الاعتراض من القول الأول وهو معزو لبعض المفسرين في « أحكام القرآن » لابن العربي . وقال ابن العربي : إنه وَهَم . وهذه طريقة جليلة من طرائق تربية النفس ومظاهر كمال التوبة بالنسبة إلى ما كان سبباً في الهفوة .

وعلى هذين التأويلين يكون قوله : { فطفق } تعقيباً على { ردُّوها عليَّ } وعلى محذوف بعده . والتقدير : فردُّوها عليه فطفق ، كقوله : { أن اضرب بعصاك البحر فانفلق } [ الشعراء : 63 ] . ويكون قوله : { ردوها عليَّ } من مقول : { فقال إني أحببت حبَّ الخير .